محمد جميح : غزة: سردية الجوع والخوف
منذ 13 ساعات
محمد جميح «لقد اخترعنا الفن كيلا تقتلنا الحقيقة»، هكذا يقول فريدريك نيتشه، وهي عبارة تحمل دلالات الهروب للفن من الواقع، غير أن الحقيقة تقتلنا، عندما يغدو الواقع ذاته ضرباً من الفن السوريالي القاتم، وعندئذٍ لا نستطيع الهروب، لأن الواقع القاتل يصبح هو الفن الذي نحاول الهروب إليه، وأي فن يمكن أن يرقى إلى مستوى مسرح الجنون الواقعي الذي نشاهده كل يوم في غزة؟!كل منظر يهون إلا منظر أطفال يتساقطون موتى، وهم يمدون أيديهم بأقداحهم، في الزحام عند نقطة توزيع الطعام، كل مشهد يمكن تصوره إلا منظر ذلك المسن الفلسطيني الذي وقف ينتظر أن يمتلئ قدحه طعاماً، غير أن الموت جوعاً عاجله، قبل امتلاء القدح، كأننا أمام لوحات رسام موغل في سوداويته، لا مشاهد حقيقية تتكرر كل يوم في بقعة من الخريطة تحاصرها الخرائط
الجوع يجتاح المكان والزمان والناس والعدسات والحكايات والتفاصيل، والجوع هو الفصل الرئيسي في السرد، وهو البلاء الذي تضاءل أمامه وباء الخوف من القصف، في أرض لا يملك أهلها رفاهية الخيارات المتعددة، بعد أن حصرتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي بين خياري: الموت قصفاً أو الموت جوعا
في روايته الموسومة «الجوع» يصف كنوت هامسون «همسات الدم وتوسلات نخاع العظم» التي عاناها البطل، في مدينة كريستيانا التي عاش فيها البطل صراعاً قاسياً بين كرامته الشخصية واحتياجاته المادية، في انعكاس لصراع الروح والمادة، الفرد والمجتمع، القيمة والمصلحة، في سرد روائي فازت بموجبه الرواية بجائزة نوبل للآداب عام 1920
لكننا هنا ـ بطبيعة الحال ـ لا نتحدث عن مشاهد سردية لرواية كتبت قبل أكثر من مائة عام، ولا نتحدث عن تجربة شخصية لمؤلف الرواية، بل عن تجربة جوع جماعي تنهش أمعاء أطفال «كريستيانا» واقعية تتموضع بين موائد تمتد على مساحات شاسعة من الأرض شرقاً وغربا، دون أن يكون للغزيين منها نصيب
محمد الماغوط شاعر الجوع في الأدب العربي الحديث، صرخ مرة: «ليس في أحشائي سوى القهوة الباردة، أقرض خدودي من الداخل، الجوع ينبض في أحشائي كالجنين»
، وصرخ مرة أخرى أنه يحتاج من يحميه من «الوحدة والجوع والعطش والسجون والسياط والدبابات وكل جيوش العالم»، ومرة ثالثة صاح: «أنا عطشان» فجاء الجواب: اشرب دموعك، وأعاد الصراخ: أنا جوعان، فجاء الرد: كلْ حذاءك
هذا بالضبط ما يجري في غزة، الناس يشربون دموعهم، ويأكلون أوراق الشجر، في مدينة منكوبة يفوق ما يجري فيها كل قدرة على التصور، ولا يصلنا مما يجري إلا قدر ضئيل، يستطيع الإعلام نقله، لأن قدر الجوعى أن يكونوا بلا ألسن، وحتى لو كانت لهم تلك الألسن فإن الشبعى بلا آذان، حيث لا يحب الشبعان أن يكدر تخمته بطعم مرٍّ يحمله صوت يتضور جوعا
قبل أيام قال مراسل الجزيرة في قطاع غزة أنس الشريف: «أنا أترنح من الجوع»
عبارة موجعة لمراسل ينقل للعالم تجربة الموت الجماعي، جوعاً وقتلاً، ثم يجد نفسه بلا طعام، يترنح من الجوع، وكأننا أمام فصول من رواية هامسون، أو مشهد سينمائي من صنع خيال موغل في السوداوية، أو إزاء إحدى الكوارث التي حدثنا عنها «العهد القديم»، لو لم تكن تلك الفصول تنقل في بث حي، على شاشات تلطخت بالدم والجوع وصراخ الأطفال في غزة
كلمات هذا المراسل الجائع أبلغ من كل سرديات الأدب العالمي عن الجوع
يقول أنس الشريف: «لم أتوقف عن التغطية لحظة واحدة منذ 21 شهرًا
واليوم، أقولها بصراحة… وبوجع لا يوصف
أنا أترنّح من الجوع، أرتجف من الإرهاق، وأقاوم الإغماء الذي يلاحقني في كل لحظة
نقف أمام الكاميرا نحاول أن نبدو صامدين، لكن الحقيقة أننا ننهار من الداخل
غزة تموت… ونحن نموت معها
وإن لم يتحرك العالم اليوم، فغدًا قد لا يكون هناك مَن ينتظر نجاته
هذا الموت يجب أن يتوقف
هذا الحصار يجب أن يُكسر
وهذه الحرب لا بد أن تنتهي»
وإزاء هذه المشاهد التراجيدية في غزة تعج موائد خيالية بأصناف الأطعمة خارج هذا القطاع المنكوب، في مفارقة تشبه تلك التي نقلها بدر شاكر السياب في قصيدته «أنشودة المطر»، حين قال: «وكل عام – حين يعشب الثرى – نجوع، ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع»، في انعكاس لثنائية وفرة الثرى، وجوع البطون، الجوع الذي «ينبض كالجنين» في أحشاء أطفال غزة، ويقتات بقايا نخاع العظام
يشير بيان لفيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين «أونروا» إلى أنه حتى العاملون في المجال الإنساني يعانون الجوع، «فالأطباء والممرضون والصحافيون والعاملون في المجال الإنساني، ومنهم موظفو الأونروا، يعانون من الجوع والإرهاق في أثناء تأدية واجباتهم»
ومع كل تلك المآسي التي ترقى إلى مستويات توراتية، ومع كل الأصوات التي تضج ببكاء الأطفال وصرخات الجياع، وأنين الجرحى، وحشرجات سكرات الموت، مع كل ذلك، لا يزال داعمو الاحتلال الإسرائيلي يتمسكون بإرسال السلاح له، ليمعن في تسعير ما وصفته الأمم المتحدة بـ«أكبر مقبرة أطفال»، و«جحيم على الأرض»، وكأن غزة هي الأرض المرجومة في اللاوعي الرسمي العالمي، كأنها ندبة زائدة في وجه الخريطة، يجب التخلص منها
تذكر كتب السيرة النبوية أن قريشاً ضربت على نبي الإسلام عليه السلام وعلى أصحابه وعشيرته حصاراً شاملاً، في أحد شعاب مكة، لفرض الاستسلام عليهم، كي يتخلوا عن دعوتهم، كان الحصار جائراً، ألجأ المحاصَرين إلى أكل أوراق الشجر وجلود الحيوانات، قبل أن تتداعى قوى الخير والضمير لفك الحصار الظالم على النبي وصحبه، لتسقط ورقة التجويع من يد قريش، ويخرج النبي منتصراً، في معركته الأخلاقية التي حسمها ضد قوى الهيمنة المكية
واليوم تتعرى حكومة الحاخامات المتطرفة في إسرائيل، وتتعرى قوى الهيمنة الدولية، ويخرج الخيرون في المدن المختلفة حول العالم، للتنديد بسياسات حكومة «أحفاد الناجين من المحرقة» التي حولت غزة إلى سجن نازي كبير، اعتقلت فيه أكثر من مليوني فلسطيني، تقتلهم كل يوم قصفاً وجوعاً، لفرض الاستلام عليهم، ناسية أنه لو كانت تلك الأساليب تنفع لكانت قد آتت ثمارها منذ أمد بعيد
مرة أخرى يصرخ محمد الماغوط: «عندما أكون جائعاً لا أكتب، بل أقاتل»