محمد جميح : محمد في مكة

منذ يوم

محمد جميح  قبل أكثر من مائة وأربعين عاماً لاحظ المستعمرون الهولنديون أن الحجاج الأندونيسيين يعودون بعد رحلة الحج إلى بلادهم، متحفزين للثورة ضد الاستعمار الهولندي

أراد الهولنديون معرفة السر وراء روح «التضحية» والمقاومة التي يمتلئ بها الحجاج بعد أداء المناسك، فتقرر إرسال مستشار الحكومة، المستشرق «كريستيان سنوك هرخرونيه» عام 1884، إلى مكة التي دخلها على أساس أنه حاج مسلم، وطُلب منه تقديم تفسير لهذه المعضلة الكبيرة التي واجهها الهولنديون، وهو ما فعله هرخرونيه في بحث قدمه لنيل درجة الدكتوراه، بعنوان: «الاحتفالات والمراسم في مكة»

وقبل ذلك بكثير نكلت «مملكة أورشليم» الصليبية بالحجاج المسلمين، وأمعنت فيهم قتلاً ونهباً وتشريداً، لمنعهم من الذهاب من بلاد الشام إلى مكة، لأسباب منها أن آثار الحج على هؤلاء الحجاج كانت مزعجة للصليبيين الذين اضطروا فيما بعد لمغادرة الأراضي التي احتلوها في الشام، تحت ضربات المسلمين

ما الحكاية؟في القرن السابع الميلادي ظهر الإسلام، في بيئة عربية لم يكن للدين تأثير عميق فيها على حياة الناس، وعلى الرغم من ضعف التأثير الديني على حياة العرب، إلا أن ذلك التأثير كان أكثر ضعفاً لدى الرعاة، سكان البوادي، منه لدى المزارعين والتجار في حواضر الجزيرة العربية قبل الإسلام، حسبما يرى المستشرق البريطاني، مونتغمري وات، في كتابه «محمد في مكة»

كان العربي القديم – إذن – يعطي القيم الأخلاقية أهمية أكبر من الأهمية التي يعطيها للقيم الدينية التي كانت مجرد تقاليد موروثة، ليس لها أبعاد روحية أو اجتماعية قوية

وقد بدا ذلك جلياً في تغني العرب بمكارم الأخلاق من كرم وشجاعة ومروءة ونجدة ونصرة، وغيرها من الخصال التي نجدها طاغية الحضور في الشعر العربي، وبشكل لا يمكن مقارنته بحضور مفردات الدين في هذا الشعر

ولعل الضعف الذي اعترى «عبادة الأصنام» كان أحد أسباب تحول العرب عنها إلى «عبادة الله» الديانة التي أصبح اسمها «الإسلام»

ومن الفرائض التي جاء الإسلام لإحيائها، وإعادة تعريفها أو ضبطها فريضة الحج الذي ينظر إليه في زمن التفسير المادي للمعتقدات والأفكار والتاريخ على أساس أنه يحوي بقايا من الديانات الوثنية، قبل الإسلام، وهي الديانات التي لم يكن لها تأثير كبير على جوانب الحياة العربية، حيث لم يكن العربي يذكر آلهته إلا في بعض المناسبات مثل الذهاب للحرب، التي تُحمل إليها الآلهة، طلباً للنصر

ومع التسليم بأن الحج كان معروفاً لدى العرب قبل الإسلام، إلا أن سردية أن بعض شعائر الحج تعود لجذوره الوثنية عند العرب، لا تعدو كونها ضرباً من التهويم، حيث يعود الحج إلى ما هو أبعد من زمن وثنية قريش، وهو موجود لدى معظم الديانات التي سبقت الإسلام، ومنها اليهودية والمسيحية، وما مظاهره المادية إلا ترجمة فعلية لطريقة الأديان في تخطي الماديات – والوصول عبرها – إلى المرامي الروحية البعيدة

هناك سورة في القرآن الكريم باسم «سورة الحج»، جاء فيها أمر الله لإبراهيم عليه السلام بأداء هذه الفريضة: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم

»…«تلبية» الأذان هو الهدف، و«الإتيان» هو الغاية، وهو هنا إتيان لمنافع مادية «منافع لهم»، وأخرى روحية «يذكرون اسم الله»، الذي تمتلئ بذكره الأرواح والعقول بمشاعر وأفكار لا يمكن وصفها، وهي حالة روحية لا يمكن لمحدودي الخيال من «الماديين» فهمها، حيث تتحول الماديات بالمفهوم الديني إلى رموز إشارية، تنفتح على دلالات روحية، ذات أهداف اجتماعية غير خافية، تجلى بعضها في ما لمسه الهولنديون من بعث روح «التضحية» ضد الاستعمار لدى الحجاج الأندونيسيين، بعد عودتهم من مكة

إنها رحلة روحية من طراز فريد يحتشد فيها التاريخ والجغرافيا والمعاني والدلالات، ويستحضر من خلالها الحاج شخصيات إبراهيم وإسماعيل، ورمزيات انبعاث الحياة، مع تفجر ماء زمزم، والرحلة من «واد غير ذي زرع» إلى مدينة عامرة: «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، ناهيك عن مناسك السعي بين الصفا والمروة، بحثاً عن ماء الحكمة وينبوع الحياة، والطواف بالبيت العتيق الذي يمثل طبيعة الرحلة إلى الله، عدا عن «رمي الجمرات»، وهي العملية التي تنفتح على دلالات ضرب الشر، ورمي المجرمين، حيث يحسن أحياناً تجسيد الشر، ومن ثم التعامل معه مادياً، تمهيداً للتخلص منه، وهي طريقة مجدية في علم النفس للتخلص من شرور النفس وآثامها

يشير المستشرق البريطاني المختص بشؤون أفريقيا، إيوان ميردين لويس وهو عميد المستشرقين البريطانيين في الشأن الإفريقي، إلى دور الحج العميق في صياغة «الهوية المشتركة» التي تجمع مختلف الانتماءات العرقية والسياسية والجهوية، وإلى كونه مناسبة للتبادل الثقافي والنفعي بين شعوب مختلفة، الأمر الذي يكرس وحدتها

ختاماً، سجل الرحالة السويسري جون لويس بيركهات أو (إبراهيم بن عبدالله) انطباعاته عن مكة التي زارها سنة 1814 في كتابه «رحلات العرب» الذي جاء فيه: «خلال جميع رحلاتي في الشرق لم أتمتع براحة كالتي عشتُها في مكة»، المدينة الرمز التي تشهد رحلة تبدأ وتنتهي بالطواف حول «البيت العتيق»، في مسار دائري رمزي إشاري، يشبه المسارات المعراجية التي تتصاعد في حركات دائرية إلى السماء، مع ما يكتنف الرحلة من متاعب وصعاب

 عن القدس العربي