مصطفى ناجي : لماذا الحوثي أقل حذراً من حزب الله؟
منذ 2 ساعات
ما إن بدت ملامح الهدوء في الحرب على غزّة، التي انخرطت فيها الجماعة الحوثية اليمنية على نحوٍ ما حتى عادت نبرة الحوثيين في مناوراتهم إلى التصعيد المتدرّج من خلال شن حملة اعتقالات على العاملين في المنظمات الدولية في اليمن وإحياء الحديث عن اكتشاف خلايا تجسّس
فقد بثت إعلام الجماعة الحوثية، أخيراً، بياناً عن اكتشاف خلية استخبارية من مخبرين يمنيين على صلة بخلايا أخرى تديرها كلٌّ من السعودية وإسرائيل وأميركا
وقد ألقى هذا البيان ابنُ الزعيم المؤسِّس للحركة الحوثية، وهو شاب في مقتبل عمره، يتربع على رأس واحدة من أجهزة الاستخبارات الحوثية العديدة في صنعاء
وسبق ذلك بروز خطاب متوعد في صفحات ناشطين موالين للجماعة متّهمين السعودية بمنع رواتبهم، والتحكم في موارد اليمنيين
فلماذا هذه اللهجة التصعيدية الحوثية؟يُعدّ كلٌّ من حزب الله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن نموذجين لحركات مسلّحة ذات طابع أيديولوجي مذهبي، تمتلكان هياكل عسكرية وسياسية واقتصادية متداخلة، غير أنّ سلوكهما تجاه البيئة الإقليمية والدولية يُظهر تباينًا واضحًا في درجة الحذر والانخراط الخارجي
فبينما يُظهر حزب الله حذراً استراتيجياً بالغاً في تحركاته، تبدو جماعة الحوثي أكثر جرأةً وانخراطاً في المواجهات المباشرة
لتفسير هذا السلوك علينا أن نضع الجماعة الحوثية تحت جهاز الأشعة السياسية والاجتماعية لفحص خمسة عوامل؛ البعد العقائدي، البنية التنظيمية، الذاكرة السياسية والتحديات المحلية، بالإضافة إلى العلاقة العضوية مع الراعي الإيراني بالقياس إلى حزب الله
وكلتا الجماعتين يمكن تعريفهما بوصفهما جماعتين ما دون الدولة وفاعلين ذوي طموح عابر للأوطان
وكلاهما يعمل على تكديس محددات القوة بالمعنى الكلاسيكي: الأرض، السكان، القوة العارية والناعمة، الموارد، لكن الكفة ترجّح الجماعة الحوثية أكثر كما سنرى
إذا نظرنا إلى المسار الزمني لتطور الحركتين، نجد أن حزب الله احتاج عقوداً من التجارب السياسية والعسكرية، والصراع مع إسرائيل أو التفاعل مع القوى السياسية اللبنانية، في بلد تحكمه معادلات التعدد السياسي والديني والطائفي، ليصل إلى ما هو عليه
بينما نشأت الحركة الحوثية في بيئة مؤسّسية هشّة ودولة مركزية متهالكة، وقادته انتصاراته العسكرية المفاجئة إلى بلوغ السلطة في صيف 2014، لا عبر سلسلة من التفاوض السياسي والتعايش الحزبي إنما بقوة السلاح لتغدو حركة استحواذية مسلّحة غير مضطرة إلى تقاسم السلطة أو التنازل السياسي
تقوم طبيعة الجماعة الحوثية على عقائدية مغلقة تستوهم النصر والتمكين الإلهي بسبب الوصول غير المتوقع إلى السلطة
وبهذا، هي لم تُدرَّب سياسياً على المناورة أو البراغماتية، لاعتمادها شبه الكامل على استخدام القوة المباشرة لتحقيق أهدافها
وبهذا، فإن حزب الله يمتلك ذاكرة صراع طويلة ومعقّدة مع إسرائيل ومع الداخل اللبناني، تدفعه إلى التفكير ملياً في تدخلاته وترشيدها
في المقابل، لدى الحوثية ذاكرة قتالية قصيرة ومتركزة في حروب داخلية ضد خصوم محليين مع تداخل إقليمي، وحتى مواجهتها مع إسرائيل جرت في حدود استعراضية رمزية من قبل الطرفين، لم يخرج منها الحوثيون بتجربة ردع متبادل أو توازنات إقليمية دقيقة
وهذا يبرر اندفاعه وثقته بنفسه إلى حد الغرور الاستراتيجي
في المجمل، سنوات الحرب في اليمن لم تكسر الحركة الحوثية رغم تقليص مساحة سيطرتها وفقدانها لمدن استراتيجية مثل عدن، ومأرب النفطية، ونصف تعز ذات الكثافة السكانية والحيوية السياسية، بل ساعدتها على اكتساب المزيد من الخبرة القتالية، وتطوير قدرات السلاح الصاروخي والطيران المسيّر، بالإضافة إلى منظومات مضادة للطائرات استطاعت إسقاط عدد من طائرات أميركية مسيّرة عالية التكنولوجيا
الأمر الآخر أن الحوثي يهيمن على جغرافيا أوسع بكثير من تلك التي يسيطر عليها حزب الله، ذات كثافة سكانية كبيرة، إذ يسيطر الحوثيون على كتلة سكانية تتجاوز سكان دولة كالإمارات، ويقاربون نصف سكان المملكة العربية السعودية، أو يبلغون عدد سكان دولة كسورية، ولا ينظرون إلى السكان يوصفهم عبئاً، وإنما بوصفهم مخزوناً كبيراً للتجنيد، ولا يهتمون بالرعاية الاجتماعية والاقتصادية للسكان
وهي مناطق في جبال اليمن تطلّ على الممرات الدولية في البحر الأحمر، وتتحكم في موانئ البحر الأحمر، ولا سيما الحديدة وميناء الصليف وأقل انكشافًا أمام أجهزة الاستخبارات الخارجية، بل إن الحوثي يسعى إلى جعل هذه المناطق مغلقة تمامًا في إطار ذهنية حذر مفرط تصل أحيانًا إلى حدٍّ من الرهاب السياسي والأمني
يعود الأمر أيضًا إلى نفسية المقاتلين اليمنيين الذين يعتمد عليهم الحوثي، إذ يتسمون بعزيمة عالية واستعداد كبير للتضحية حتى لو كان ذلك على حساب الفناء الكامل
يجنّد الحوثي في بيئة اجتماعية مسومة بارتفاع معدلات الأمية والروح القبلية التي تمزج بين الشرف والتضحية، ويزودها بروح عقائدية، بينما يتوغل حزب الله في بيئة أكثر تمدّناً من اليمن، ونسبة الأمية فيها أقل
وهذا قد يكون عاملًا في أو عدم ترشيد سلوك الأفراد والجماعات السياسية
يتبقى معنا العلاقة بالراعي الإيراني
كلا التنظيمين يرتبط بإيران، لكن شكل العلاقة ومستوى التبعية يختلفان
حزب الله هو الابن السياسي الناضج لإيران؛ يمثلها، لكنه يحتفظ بقدر من الاستقلالية التكتيكية، ويشارك في بناء صورة المحور المقاوم بعقلانية محسوبة تتناسب والسياسة الإيرانية ذات الصبر الاستراتيجي
في المقابل، دخلت الجماعة الحوثية تكتيكياً محور المقاومة متأخرةً، وهي معنية بتقديم الأدلة الدامغة على موثوقيتها في إطار المحور وفاعليتها
لذا، الحوثيون أقرب إلى الابن المتمرّد حديث الولادة، الذي يحظى برعاية، لكنه لم يصل إلى مستوى النضج السياسي
ما يقدمه الحوثيون من خدمات متهوّرة لإثبات ولائهم وقدرتهم على أخذ مكان حزب الله الذي تعرّض لضربة موجعة، يدفع إيران إلى أن تستخدم الحوثيين ورقةَ ضغطٍ مرنةً وقابلة للتضحية في صراعات البحر الأحمر وباب المندب، على عكس حزب الله الذي يمثل ركيزة استراتيجية في مواجهة إسرائيل
تعرف الجماعة الحوثية نفسها بأنها جماعة ثورية، وتستمد روحها العقائدية من الالتحام بمحور المقاومة الذي تتزعمه إيران، ومن ثم تنهل أيضًا من سياسته الثقافية الثورية
وبهذا يأتي العنف واكتشاف عوامل القوة في صميم مشروعها، لا بوصفه مناورة تكيتيك إنما بوصفه حاجة وجودية وتعبيراً دائماً حتى لا تخمد الشعلة الثورية
يأخذ منحنى القوة لدى الحوثيين تصاعداً ملحوظاً
وعلى الرغم من أن اليمن يمرّ بهدنة هشّة منذ 2022 جمّدت المواجهات العسكرية، تمتلك الجماعة الحوثية فائض قوة
وهذه القوة لا يمكن كبتها، بل تعبّر عن نفسها بطريقة ما، وإلا فإنها ستنفجر في وجه من يمسك بها
لذا تدخل الحوثيون في حرب غزة، وكان تدخلهم يقود إلى تعظيم مكاسبهم الرمزية
في النتيجة، توسّع في قوتهم الناعمة وزيادة شعبيتهم داخل الجمهور العربي وما وراءه، باعتبارهم الطرف المتدخل الوحيد لنصرة غزة
أمام تهوّر الجماعة الحوثية يمكننا استخلاص أنها تعبير عن القوة القتالية الصرف على عكس حزب الله، عقلانية قتالية منظمة
وتنطلق الحوثية من أوهام عدم الانكشاف ومحددات قوة قد تكون زائفة، لأن اللجوء إلى تصدير القوة بالاستعراض والتهديد والابتزاز سيقود إلى صداماتٍ مع قوى دولية تؤدّي إلى تقويض قدرته
*العربي الجديد