من الحصار إلى المجاعة: مسار ممنهج للإبادة في غزة

منذ 13 ساعات

في غزة، لا يُحصى الموت بأرقامٍ باردة، بل بأصوات الأطفال التي انطفأت قبل أن تكتمل حكاياتها

 حتى الثاني من سبتمبر/أيلول الجاري، ارتقى مائةٌ وثلاثون طفلًا جوعًا وقهرًا، ضمن أكثر من ثلاثمائةٍ وواحدٍ وستين شهيدًا

أرقامٌ قد تبدو على الورق جافة، لكنها في حقيقتها شواهد دامية على مجاعةٍ تتقدّم ببطءٍ قاتل، تحوّل الطفولة والشيوخ والرجال والنساء إلى جثثٍ صامتة على أرصفة المدينة

كل لقمةٍ مصادرة، كل قنينة ماء ممنوعة، هي رصاصةٌ جديدة في جسد براءةٍ وشيخوخةٍ لم تعرف من العالم سوى الحصار والأسلاك، وفي قلب كل إنسانٍ يتردد صدى الصرخة التي لا يسمعها أحد

مشهد يجلد الضمير الإنساني؛ البشر يموتون لا لأن الطبيعة قست، ولا لأن الأرض شحّت، بل لأن قرارًا سياسيًا حول رغيف الخبز وقطرة الماء جعل من حياتهم أداة حرب

هنا تنكشف الحقيقة العارية: العالم الذي يزهو بقوانينه ومواثيقه وقف متفرجًا على أصغر الأجساد وأكبرها على حد سواء، وهي تُساق إلى حتفها ببطون خاوية وقلوبٍ مثقلة بالخوف

بهذه المأساة تتجلى حقيقة أن غزة ليست مجرد ساحة حرب، بل مختبر إبادة يُدار بأدوات التجويع والإفقار، تعبر عن انهيار شامل للنظام الأخلاقي والقانوني للعالم، حيث تُسلب الحياة كأنها سلعة قابلة للإزالة، وتتحول الإنسانية إلى صدى باهتٍ وسط ركام الحصار

الإبادة البطيئةلم تعد غزة مجرد جغرافيا للصراع، بل تحوّلت - كما أشرنا - إلى مختبر نهائي يكشف العورة الأخلاقية للنظام الدولي، ويمتحن مصداقية مرجعياته القانونية

إنها النموذج الأكثر وضوحًا في القرن الحادي والعشرين لـ الإبادة البطيئة، حيث تُستخدم أدوات العصر – الحصار، والتجويع، وتدمير البنى التحتية للحياة – لتحقيق هدف قديم: إخضاع شعب وإفقاده إرادة الحياة نفسها

إعلان الهيئة الدولية لمراقبة الجوع في 22 أغسطس 2025 بالمجاعة في محافظة غزة، لم يكن مجرد تصنيف تقني جاف

لقد كان، في جوهره، شهادة وفاة أخلاقية صادرة عن أحد أبرز مراصد العالم حياديةً، تُثبت أن ما يحدث ليس نزاعًا بين متساوين، بل هو عملية قتل منهجية بآلة قمع جوع

الانزياح الجوهري للإعلانالانزياح الذي أحدثه إعلان الهيئة الدولية لمراقبة الجوع هو انتقال النقاش من حقل الانتهاكات أثناء الحرب إلى حقل جرائم الإبادة الجماعية بمفهومها القانوني الصارم

فالاتهام بالإبادة يتطلب إثبات القصد الخاص، وهو ما كان يشكل العقبة الكبرى

لكن التقارير الفنية مثل تقرير الهيئة تقوم بـ إثبات القصد عبر النتائج

عندما يتم تدمير 99% من الأراضي الزراعية، ومنع إدخال الغذاء والوقود بشكل منهجي، واستهداف ممنهج لمرافق التخزين والتوزيع، ومقاومة أي محاولة لفتح المعابر، فإن النتيجة الحتمية هي المجاعة

والقيام بهذه الأفعال مع العلم بنتيجتها الحتمية يُشكل، وفقًا للسوابق القضائية الدولية (مثل محكمة رواندا ويوغوسلافيا)، دليلاً قاطعًا على القصد الإجرامي

المجاعة هنا ليست أثرًا جانبيًا مأساويًا، بل هي السلاح الأساسي

هذا يحوّل التوصيف من احتلال أو نزاع مسلح إلى نظام فصل عنصري مُمَأسَس يقترن بإبادة جماعية، وهي جريمة مركبة لم يشهدها العالم بهذا الوضوح منذ عقود

انهيار شرعية الحصانة  لطالما اعتمدت إسرائيل على حصانة مزدوجة: الحصانة السياسية بفضل الدعم الأمريكي غير المشروط في مجلس الأمن، و الحصانة السردية عبر تسويق نفسها كضحية دائمة محاطة بأعداء

إعلان المجاعة قام باختراق هاتين الحصانتين:1

الشرعية القانونية: لم يعد النقاش يدور حول إذا ما كان هناك جريمة، بل حول تصنيف هذه الجريمة

الإعلان وفر الدليل القاطع الذي طالما انتظرته المحكمة الجنائية الدولية

التجويع كسلاح حرب مُدرج صراحة في المادة (8/2/ب/25) من نظام روما الأساسي

 وهذا يضع المدعي العام، وكذلك القضاة، أمام اختبار مصداقية تاريخي: إما المضي قدمًا في ملاحقة تتسم بالجرأة، أو إضفاء الشرعية على ثقافة الإفلات من العقاب

2

الشرعية الأخلاقية: الصورة العالمية لإسرائيل تحولت من دولة ديمقراطية إلى دولة ترعى التجويع

أطلق الإعلان ديناميكيات جديدة في السياسة الدولية

قرارات دول مثل ألمانيا وإسبانيا وكندا بإعادة النظر في تصدير السلاح لم تعد مجرد إدانات، بل هي إجراءات وقائية ضد التواطؤ في الإبادة الجماعية، وهذا من شأنه أن يساهم في تراجع الشرعية السياسية لإسرائيل: بيانات وزراء خارجية ودول أوروبية، واستقالات سياسية، واستنفار منظمات دولية أدت إلى ضغوط دبلوماسية مباشرة

كل ذلك يخلق سابقة خطيرة لإسرائيل، حيث يصبح داعموها التقليديون شركاء محتملين في الجريمة وفقًا للقانون الدولي

ومن هذا المنطلق يمثل إعلان المجاعة نقطة انعطاف سياسية دولية، سيترتب عليه، عاجلاً أو آجلاً، إعادة ضبط المعادلات، خصوصًا ما يتعلق بشرعية العمليات العسكرية، وقابلية الدعم الدولي، ومخاطر المحاسبة القضائية، والتداعيات الإقليمية

المساءلة الجنائية: من النظرية إلى التطبيق العمليأضحى التجويع كسلاح حرب جريمةً مُعرَّفة تعريفًا دقيقًا، ويتيح ذلك مساراتٍ للمحاسبة: أمام المحكمة الجنائية الدولية، وعبر تدابير محكمة العدل الدولية في قضايا الخطر الداهم، وباستخدام الولاية القضائية العالمية لدى الدول التي تقرُّ بها قوانينها

وعلى الرغم من صعوبة التنفيذ تحت ضغط السياسات الكبرى، فإن تراكم الأدلة المادية، وتصنيف المجاعة، وتوثيق الاستهداف المنهجي لسلاسل الغذاء، كلها عناصر تُقوّي حجج الادعاء وتختبر صدقية منظومة العدالة الدولية

يفتح إعلان المجاعة ثلاثة مسارات قضائية غير مسبوقة:←    المحكمة الجنائية الدولية: يصبح إثبات جريمة التجويع كسلاح حرب أسهل بكثير مع وجود تصنيف الهيئة الدولية لمراقبة الجوع

هذا يمكن أن يؤدي إلى مذكرات اعتقال ضد صانعي القرار السياسي والعسكري الذين أشرفوا على سياسة الحصار ومنع المساعدات

←    محكمة العدل الدولية: في قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، يُعد إعلان المجاعة دليلاً دامغًا يدعم ادعاءات الخطر المقبل غير القابل للإصلاح ويدفع نحو فرض تدابير مؤقتة أكثر صرامة، مثل المطالبة بفتح كافة المعابر تحت إشراف دولي

←    الاختصاص العالمي: يمكن للدول التي تقوم قوانينها على هذا المبدأ (مثل إسبانيا وألمانيا) ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، بناءً على هذا الإعلان الأممي، حتى دون موافقة حكومتهم

النفاق القانوني وتاريخ الجوعغزة لم تمت فقط تحت القصف، بل ماتت تحت وطأة النفاق القانوني للنظام العالمي

المجاعة هي الذروة المأساوية لمسار طويل من التمييز والفصل العنصري

 فالجوع ليس عرضًا جانبيًا للحرب، ولا حتميةً طبيعيةً يفرضها القحط والعجز

تاريخ البشر يكشفه باعتباره تقنيةً سلطويةً راسخة: يُصاغ ويُدار ويُقاس ويُوزَّع كوسيطٍ للهيمنة وكأداةٍ لإخضاع الجماعات والدول وتغيير خرائطها الديموغرافية والاقتصادية

من اقتصاد المزارع في العالم الأطلسي إلى حصارات القرن العشرين والحروب الأهلية المعاصرة، ذهب الاستعمار بعيدًا في تحويل الطعام من حقٍّ فطري إلى امتيازٍ سياسي

وفي الزمن الراهن، بلغ هذا المسار ذروته في غزة، حيث تتقاطع إدارة الجوع مع تدمير مقومات الحياة لتشكِّل بنية إبادةٍ مركَّبة

وهنا نستعرض لمحة عن تاريخ التجويع؛ من أداة استعمارية إلى تقنية إبادة، وكيف تطور من الإستراتيجية الاستعمارية إلى جريمة العصر الحديث، وكيف يتكرر هذا الإرث الاستعماري اليوم في غزة بوجه أكثر صراحة وفجاجة

فالمجاعات الكبرى التي صنعها الاستعمار الأوروبي على سبيل المثال، لم تكن مجرد حوادث عرضية؛ بل كانت معادلات غذائية مدروسة، كما كشف باحثون عن سياسات بريطانية في الهند وأيرلندا، إذ حُسبت حصص الشعوب المستعمَرة بدقة تضمن بقاءهم في الحد الأدنى من الحياة دون قدرة على النهوض، والتجويع ليس مجرد تكتيك عسكري عابر، بل هو إستراتيجية عميقة الجذور في التاريخ السياسي للهيمنة، تطورت من أداة بدائية في حروب الإخضاع إلى سلاح معقد في حروب الإبادة الحديثة، ومثّل التجويع، عبر مساره الدموي الطويل، الاختراق الأكثر فجاجة لحرمة الحياة الإنسانية، وتحويل الحاجة البيولوجية الأساسية للبقاء - الطعام - إلى وسيلة للقتل البطيء والسيطرة السياسية

ولم يعد الجوع يُقرأ بوصفه ظاهرة طبيعية أو نتيجة عارضة للحروب، بل بات يُدرَك في الذاكرة السياسية والحقوقية كوسيلة متعمدة لإخضاع الجماعات والدول وتغيير مسارها الديمغرافي والاقتصادي

 فالغذاء الذي يمثل حقًا أصيلاً تحول، في كثير من السياقات التاريخية، إلى أداة ضبط وإكراه

ومع تطور الأنظمة الاستعمارية والحروب الحديثة، صار التجويع بنية متكاملة لإدارة السكان عبر الإبقاء عليهم على حافة البقاء، وصولاً إلى هندسة فنائهم الجماعي كما يتجلى اليوم في غزة

ومن هنا، فإن الجوع عبر التاريخ لم يكن قدرًا بيولوجيًا بائسًا، بل أداة سياسية عاتية

ففي أوكرانيا، صنع ستالين مجاعة الهولودومور (1932–1933) لفرض الهيمنة وتغيير التركيبة الديموغرافية

وفي الهند، ترك ونستون تشرشل ثلاثة ملايين يذوون في مجاعة البنغال (1943) بينما تُصدَّر الحبوب لدعم المجهود الحربي البريطاني، ساخرًا من موتهم بأنهم يتكاثرون كالأرانب

وفي إيرلندا، قُتل مليون بالمجاعة الكبرى (1845–1852) بينما كانت السفن المحملة بالحبوب تغادر إلى إنجلترا

وفي حصار لينينغراد (1941–1944)، ترك النازيون مليون إنسان للموت جوعًا وبردًا تحت حصار دام نحو 870 يومًا

وتعرضت سراييفو (1992-1996) لحصار طويل تخللته سياسات تجويع رغم الجسور الجوية

إلى جانب فشل الإغاثة في بيافرا (1967–1970) تحت سطوة الحصار والذي شكّل نقطة تحول في وعي القانون الإنساني

وفي العقدين الأخيرين، الصومال، وجنوب السودان، ودارفور، وتكرر المأساة في الغوطة ومضايا بالحصار السوري، وفي تيغراي الإثيوبية، وفي اليمن حيث يواجه أكثر من 17 مليون إنسان أسوأ أزمة جوع في العالم

 النماذج كثيرة قديمًا وحديثًا، والمشهد واحد: تحويل الطعام إلى سلاح، والخبز إلى رصاصة، والحرمان من الغذاء إلى أداة إخضاع

الاقتصاد السياسي للقسوةومن خلال القراءة المتأنية للتاريخ الطويل للاقتصاد السياسي لـ القسوة، يمكن الإشارة إلى بعض النماذج:❖    الاستعمار والغذاء: لم يكن الطعام يومًا عنصرًا محايدًا في معادلات القوة، فقد أعادت الإمبراطوريات الاستعمارية تشكيل النظم الزراعية والإنتاجية في المستعمرات بما يخدم الاقتصاد الإمبراطوري، مستخدمة آليات الاحتكار والتحكم بالحصص الغذائية لإبقاء المجتمعات المستعمَرة في حالة تبعية

❖    المجاعة بوصفها سياسة: مجاعة أيرلندا (1845–1852) ومجاعة البنغال (1943) تكشفان كيف تم تحويل الوفرة الزراعية إلى موت جماعي بفعل سياسات الجباية والتصدير القسري وحجب الإغاثة، لم تكن الكارثة ندرةً في الإنتاج، بل فشلًا مُتعمَّدًا في التوزيع، مقرونة بخطاب استعلائي عنصري يبرر التضحية بالسكان لمقتضيات السيطرة الإمبراطورية

❖    اقتصاد العبودية: ارتبطت تجارة السكر والعبودية بمنظومة غذائية تضمن الحد الأدنى لبقاء العبيد والعمال أحياءً من أجل العمل، لا من أجل الكرامة الإنسانية، فقد أصبح السكر عنصر أساسي في النظام الغذائي الأوروبي، مؤسساً لما يُسمى بـاقتصاد المزارع، ترتب عليه استعباد ملايين الأفارقة الذين جُلبوا بالقوة إلى مزارع أميركا اللاتينية والكاريبي لإنتاج هذه الحلاوة البيضاء، إذ إن مزارع السكر في البرازيل والكاريبي لم تكن مجرد وحدات إنتاجية، بل مختبرات لتطوير أنظمة القمع والاستغلال

❖    الحصار وآلة التجويع: من لينينغراد إلى سراييفو، ومن بيافرا إلى اليمن وتيغراي والصومال وجنوب السودان، ظل الحصار تقنية متكررة: قطع الإمدادات، تعطيل الإغاثة، وتحويلُ المساعدات إلى رهينة تفاوض، وتطبيعُ الموت البطيء في لغة الضرورات العسكرية

سيرة قانونية لإدارة الجوع القانون الدولي أدرك متأخرًا خطورة هذه الجريمة، ويمكن الإشارة إلى أنه مر بهذه المراحل:❖    المرحلة الرمادية: حتى منتصف القرن العشرين، ظلَّ الحصار الذي يفضي إلى التجويع قانونيًا على نحوٍ ملتبس، واستفادت القوى البحرية الكبرى من الغموض لحماية أداة الحصار

❖    نقطة التحوُّل (1977): مع البروتوكولين الإضافيين لاتفاقيات جنيف، انتقل الخطاب من التسامح مع التجويع إلى حظره صراحةً كسلاح حرب، مع إدراج حماية الأعيان الضرورية لبقاء المدنيين ومنع مهاجمتها أو تعطيلها

❖    نظام روما الأساسي (1998) وما بعده: جُرِّم تجويعُ المدنيين عمدًا في النزاعات الدولية بوصفه جريمةَ حرب، ثم اتسع نطاق الحظر تدريجيًا ليغطّي النزاعات غير الدولية

وقد أسهم قرار مجلس الأمن 2417 (2018) في ترسيخ المعيارية السياسية والأخلاقية لاعتبار التجويع خطًا أحمر، حتى وإن ظلّت آليات التنفيذ رهينة توازنات القوة

❖    صعوبات الملاحقة: تبقى العتبة الإثباتية – ولا سيما القصد الخاص – والتشابكات الجيوسياسية، وإعاقة العمل الإنساني، عقبات عملية أمام تحويل النصوص إلى عدالة ناجزة

لكن سوابق القضاء الدولي تُجيز استنباط القصد من نتائجٍ معلومةٍ مسبقًا ومن بنية الأفعال نفسها

الجوع قرار سياسي ومن آخر هذا النقاط وتحديدًا، صعوبة الملاحقة، فإن التعقيد الحقيقي لا يكمن في الإثبات القانوني فحسب، بل في البنية السياسية للنظام الدولي نفسه، الذي يسمح، بتحويل العمل الإنساني إلى أداة سياسية، والتستر على الجرائم عندما ترتبط الأطراف المسؤولة بحلفاء كبار أو تكون جزءاً من توازنات سياسية دقيقة

 هذا التواطؤ البنيوي هو ما يحول دون محاسبة الجناة، ويجعل من القوانين الدولية، على وضوحها (المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف)، تبدو كخطاب أخلاقي أعزل في مواجهة آلة القوة والسيادة

كما أن الصعوبة القانونية في إثبات القصد الجنائي للتجويع، ليست ثغرة في المنظومة القانونية بقدر ما هي تعبير عن طبيعة هذه الجريمة التي تُرتكب غالباً في الظل، حيث تتداخل الحسابات العسكرية الباردة مع المبررات الاقتصادية والسياسية، لتصنع ستاراً من الإنكار المعقول

 فالمجاعة، في كثير من النماذج التاريخية من الهولودومور الأوكراني إلى حصار لينينغراد، كانت جريمة بلا جناة ظاهرين، تذوب فيها المسؤولية في تعقيدات بيروقراطية وسرديات وطنية

لقد شكّلت السيطرة على الموارد الحيوية - الطعام، الماء، البذور - القلب النابض للمشروع الاستعماري عبر العصور

من تحويل الزراعة في المستعمرات إلى أنظمة أحادية المحصول لخدمة الاقتصاد الإمبراطوري، كما حدث في الهند وإيرلندا، إلى إعادة تشكيل الأنظمة الغذائية لخلق تبعية مطلقة، كما يوثق ألفريد كروسبي في نظريته حول الإمبريالية البيئية

في هذا السياق، لم يكن التجويع مجرد حرمان من الغذاء، بل كان إعادة تنظيم متعمدة للحياة نفسها، وتحويل الشعوب إلى كيانات تابعة، يفقدون معها سيطرتهم على مقومات بقائهم، ومن ثمّ، على قرارهم السياسي

غزة: ذروة التاريخ المظلم للتجويعلماذا الجوع في غزة مختلف وأشد قسوة من النماذج السابقة؟رغم أن ذاكرة القرن العشرين والواحد والعشرين مثقلة بمجازر الجوع ــ من الهولودومور في أوكرانيا، إلى مجاعة البنغال تحت الاستعمار البريطاني، وحصار لينينغراد، والغوطة، وسراييفو، واليمن وتيغراي ــ إلا أن ما يجري في غزة لا يمثل مجرد تكرار مأساوي، بل ذروة تكوينية جديدة في بنية الإبادة نفسها، تنقل الجوع من كونه سلاحًا إلى كونه نظامًا شموليًا للإفناء

 ويكمن تفرد الحالة الغزّية في تسعة أبعاد متشابكة:1

    البنية البيروقراطية للجوع:لم يُترك الجوع للفوضى أو لتقلبات الحصار، بل أُدير عبر جهاز بيروقراطي بارد منذ 2007، حيث حُددت السعرات الحرارية المسموح دخولها بدقة، تجسيدًا لـ عقلية المزرعة الاستعمارية التي تعامل البشر كقطعان يجب إدارتها بأقل تكلفة ممكنة للحفاظ على قيمتها الإنتاجية (البقاء على قيد الحياة) دون منحها فائض القيمة (الازدهار)، حيث ضُبطت كميات الوقود والماء، وتحوّلت المعابر إلى صمامات يتحكم بها المحتل لحظة بلحظة

إنها هندسة غذائية استعمارية غير مسبوقة، تجعل الموت مشروعًا إداريًا مكتمل الأركان

هذه الدقة الحسابية في إدارة الموت الجماعي، والتي تستخدم أدوات العصر من تحليلات بيانات ومراقبة لوجستية، هي سمة لم تكن بهذا الوضوح في النماذج التاريخية، مما يجعلها أكثر رعباً

2

    الحصار المطلق والمساحة المغلقة:في لينينغراد وُجد طريق حياة، وفي سراييفو وُجد جسر جوي، حتى في المجاعات الأفريقية بقيت منافذ برية

غزة وحدها محاصَرة برًا وبحرًا وجوًا في آن، ضمن واحدة من أعلى الكثافات السكانية عالميًا، ما يحوّل أي انقطاع قصير في الإمدادات إلى كارثة فورية

3

    متلازمة الفناء الشامل (الحاضر والمستقبل):الجوع في غزة لا يقف وحيدًا؛ بل يترافق مع العطش بانقطاع المياه، والمرض بانهيار النظام الصحي، والبرد والظلام بانقطاع الكهرباء والوقود

فليست مجاعة بالمعنى الكلاسيكي، بل منظومة إفناء متكاملة متلازمة موت، حيث تتقاطع عناصر الحياة كلها في نقطة موت واحدة، تشمل تدميرا متزامنا لكل مُضاعفات الحياة

وإلى جانب الحاضر، جرى استهداف المستقبل نفسه: تجريف الأراضي الزراعية (99%)، قصف الأشجار المعمّرة، إتلاف مصادر الري والصيد

أي أنه يُقتل الجيل الحالي بينما يُمنع الجيل المقبل من امتلاك أدوات التعافي

4

    القصد المعلن بلا مواربة:خلافًا للمجاعات السابقة التي غُلِّفت بتبريرات عسكرية أو طبيعية، أعلن المسؤولون الإسرائيليون صراحة: لا طعام، لا ماء، لا كهرباء

هنا لا يحتاج القانون إلى استنتاج النية من النتائج؛ فقد صيغ القصد بلسان واضح، في سابقة فجّة نادرة في تاريخ الإبادة

5

    الإغاثة كسلاح إذلال:تحوّلت المساعدات من قناة نجاة إلى أداة سيطرة، تُفتح وتُغلق وفق الحسابات السياسية لإرادة المحتل

لم يعد الخبز وسيلة للحياة، بل رافعة للهندسة الديموغرافية والضغط على السكان لدفعهم نحو التهجير القسري

إنها أول مرة يُحوَّل فيها فعل الإغاثة نفسه إلى عنصر في منظومة القتل، وأداة في معادلة الإبادة

6

    التوثيق غير المسبوق:لم يشهد التاريخ مجاعة عولجت بهذا القدر من التوثيق المباشر: صور الأطفال بقدور فارغة، بيانات أممية دقيقة، شهادات لحظة بلحظة

لا جهل هنا ولا إنكار ممكن

المفارقة أن الجريمة الأكثر علانية في التاريخ هي في الوقت نفسه الأكثر إفلاتًا من الردع، ما يعمق الأزمة الأخلاقية للنظام الدولي

7

    التواطؤ العالمي الفاعل والصامت:في معظم النماذج السابقة، كان ثمة فاعل مباشر وعدو واضح

في غزة، الفاعل الحقيقي هو نظام عالمي فاشل

الحصار لم يُفرض بقوة عسكرية واحدة، بل بتواطؤ دولي عبر صمت فاعل، وتمويل مستمر للآلة العسكرية، واستخدام حق النقض (الفيتو) لحماية الجريمة من المساءلة

هذا التحالف غير المقدس بين القوة المحتلة والقوى العظمى التي تدعي حماية القانون الدولي حولت الإبادة من جريمة محلية إلى إبادة بالمشاركة، حيث يصبح العالم شاهداً ومتواطئاً في آن واحد، مما يعمق الإحساس بالعزلة والمأساة

8

    الحرب على المعنى والسيادة على الحياة والموت:يشرح مفكرون جوهر السيادة بأنها تحديد من يعيش ومن يموت

إسرائيل تمارس هذه السيادة بأبشع صورها، لكنها تتجاوزها إلى حرب على المعنى ذاته: محاولة تقديم الإبادة كـنزاع معقد أو أثر جانبي

إعلان المجاعة يبدد هذا الغطاء، ويعيد تعريف ما يحدث بلغة القانون: إبادة جماعية بالقصد الخاص، ويسلب المحتل سيطرته على السردية ويفضحها أمام العالم

9

    الإبادة في مختبر كوني مفتوح:غزة ليست مأساة محلية، بل مرآة كونية تُعرّي النظام الدولي: لأول مرة تُبث مجاعة لحظة بلحظة أمام كاميرات العالم، بلا إمكانية للإنكار أو الادعاء بالجهل

وما يجري في غزة يكشف أن الحصانة السياسية (الفيتو الأمريكي) لم تعد قادرة على حجب الحقيقة الجرمية، مما يخلق أزمة شرعية وجودية للغرب كحامل لمشروع قيمي

غزة أمام ضمير العالمالتاريخ يعلّم أن الجوع سلاحٌ فاعل حين تحرسه سرديةُ ضرورةٍ وقانونٌ مرنٌ وميزانُ قوى مختل

لكن التاريخ نفسه يثبت أن التطبيع مع التجويع يترك ندبةً أخلاقيةً لا تُشفى في ضمير العالم

 يقطع مسار غزة مع الأعذار: فالجريمة موثقة، وتعريفها القانوني مُستقر، والأثر لا يُنكر

يبقى السؤال: هل يُستعاد معنى القانون ليحمي الحياة لا ليُدار عبرها؟ أم تُترك المجاعة مرةً أخرى سياسةً ناجحة تُغري مُقلدين جددًا؟إنّ استعادة معياريةٍ كونيةٍ تحرِّم التجويع بلا لبس، وتكفّ يد الحصار كمؤسسةٍ سياسية، ليست ترفًا أخلاقيًا، بل شرطًا لإنقاذ ما بقي من شرعية النظام الدولي نفسه

وفي غزة، لا يُقاس الانتصار بإغاثةِ اليوم وحدها، بل بإزالة البنية التي تجعل الجوع ممكنًا

إنها لحظة الحقيقة: إما أن يثبت العالم أن القانون الدولي ليس مجرد زخرف لفظي، وأن حقوق الإنسان لا تُختزل في هوية المنتسب إليها، أو أن يعترف بأننا نعيش في عالم بلا قانون، تُشرعن فيه القوة عُريَها بأوراق مزيفة

غزة هي المرآة، والسؤال الأخير الذي تقذفه في وجه العالم أجمع: هل ما زلتم بشرًا؟* نقلا عن الوحدوي* كاتب وصحفي يمني، باحث في الشؤون السياسية والاقتصادية