نبيل البكيري : محمّد الظاهري المثقّف والموقف... وداعاً

منذ 6 ساعات

غيب الموت في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي المناضل السياسي والأكاديمي والمثقّف، والشخصية الوطنية اليمنية البارزة، محمّد محسن الظاهري، في إسطنبول، بعد معاناة مع السرطان الذي أُصيب به في سنواته الأخيرة، واضطر لمغادرة صنعاء وجامعتها التي كان يرأس نقابة هيئة التدريس فيها، وتعرّض بسببها لاعتقالات تعسّفية من مليشيات الحوثي الحاكمة لصنعاء رافضاً مغادرتها رافعاً شعاره الشهير لا بدّ من صنعاء، وإن تعاظم الخطر

والظاهري شخصية وطنية محطّ إجماع وطني كبير يمنياً، ويتمتّع بشخصية جاذبة وتوافقية رغم أنه كان أحد أبرز وجوه ثورة 11 فبراير (2017)، وأبرز جرحاها الذين سقطوا في مظاهراتها، لكنّه ظلّ محافظاً على خطّه الوطني التوافقي المستقلّ في كل المحطّات التالية للثورة شخصيةً تحظى بتقدير كبير، لبساطته وتواضعه ونزاهته وزهده في المناصب الكبيرة التي عُرضت عليه

ينحدر الظاهري من أسرة مشايخ كبيرة ذات مكانة مرموقة في المناطق الوسطى من اليمن التي تعرّضت وعاشت صراعات كبيرة خلال عقد الثمانينيّات بين الجبهتَين، الوطنية المدعومة من نظام عدن حينها، والإسلامية المدعومة من نظام صنعاء، وقد دفعت أسرته ثمناً باهظاً لهذا الموقف المناهض للحرب ممّا اضطرها لمغادرة مناطقها، وترك كل أملاكها

هذا البعد الاجتماعي القَبَلي الذي جاء منه الظاهري، ظلّ يشكّل سؤالاً مهماً في ذهنه وذاكرته

وكبر السؤال معه وهو الطالب المتفوّق والنبيه الذي كان يحوز المراتب الأولى دائماً في كل مراحله الدراسية، لدرجة أنه حصل على منحة لدراسة الطبّ، لكنّه فضّل أن يدرس السياسة في الجامعة الأردنية التي حاز فيها المرتبة الأولى على زملائه متابعاً دراسة الماجستير في التخصّص نفسه، حتى نال الدكتوراه عن سؤال الدولة والمجتمع في اليمن في جامعة القاهرة التي تخرج فيها

حاول الظاهري برسالته للدكتوراه أن يعيد رسم مسار واضح للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وخاصّة في مجتمع اليمن، الذي تُشكّل القبيلة فيه أهمّ مكوّناته وأبنيته المعقّدة، وشكلاً من أشكال السلطة في بُعدها الداخلي، تحضر بأعرافها وتقاليدها وعصبيتها حينما تضعف الدولة وتتراجع من المجال العام، لتختفي وتنخرط في الدولة، حينما تقوى الأخيرة وتحضر في واقع الناس

بعدها عاد إلى جامعة صنعاء أستاذاً للسياسة التي رآها لا عِلماً مجرّداً محصوراً في قاعات الدرس والمحاضرات والندوات فحسب، بل بنت الشارع وصوته ومعاناته، وأنها الخبز والدواء والمسكن والمدرّس والكتاب وفاتورة الماء والكهرباء

هي ما يحيط بنا ويدور حولنا ويتعلّق بحياتنا، فكان الظاهري نموذجاً مختلفاً من الأكاديميين الذين لم يتشرنقوا في زوايا قاعات الدرس وحدها، التي يكون فيها الأستاذ في التصوّرات الدارجة مجرّد موظّف يؤدّي وظيفته ويعود بعدها إلى بيته وأولاده لا يدري ماذا يجري في الشارع والحارة والمجتمع من حوله

شكّل الظاهري صوتاً جديداً ومختلفاً في المجال الأكاديمي خاطّاً بذلك طريقاً جديدة للأكاديمي لا موظّفاً يؤدّي واجبه وعمله مجرّداً من أيّ رسالة منتظراً راتبه نهاية كل شهر، وإنما أكاديمياً مثقّفاً صاحب رؤية وموقف نقدي من كل شيء أمامه

لم ينظّر الظاهري لهذه الرؤية، بقدر ما مارسها واقعاً معاشاً في حياته ويومياته، فتجده في الدرس كما هو في الشارع والندوة والوقفة الاحتجاجية والمظاهرة والمقال الصحافي، وفي القرية والمقيل، وكل مكان شُخّص من طينة الناس وصميم معاناتهم

لهذا رأينا كيف كان أبرز وجوه ثورة 11 فبراير، وما خاضه قبلها من نقاشات وحوارات وجولات عدة في قلب الاجتماع السياسي اليمني من منابر الصحافة والمجتمع المدني والفعاليات المختلفة

حضر مبكّراً بقلمه وفكره وسلوكه، ذلك السلوك الذي لمسه الناس وعرفوه به رجلاً لا يحابي أحداً، ولا يخاف في قول ما يعتقد أنه صواب

لقد جسّد الظاهري بسلوكه ومواقفه، وبحياته المهنية والسياسية النضالية، صورةً وطنيةً مشّرفةً وباذخة الجلال والبهاء للمثقّف الوطني العضوي الملتزم بقضايا أمّته ووطنه، والمدافع الصلب عن هذه القضايا على كافة المستويات، يمنياً وعربياً، فكان عضواً في مجلس إدارة مركز دراسات الوحدة العربية الذي مثّل منبراً مهماً لكل ما يتعلق بالقضايا العربية ذات البعد القومي، قبل انخراط بعض أعضائه في حالة استقطابية حادّة نتيجة تداعيات الربيع العربي

أمّا على المستوى الشخصي، فعاش الظاهري، وهو الشخصية القادمة من عمق المشيخ القبلي والمكانة الاجتماعية الكبيرة، والأكاديمية أيضاً، حياةً بسيطةً متواضعةً، زاهداً في كل شيء ومتعالياً على المغريات التي لم تتوقّف يوماً في المراحل والمحطّات كلّها، وكان آخرها محطّة منفاه وعلاجه في إسطنبول، تلقّى خلالها عديداً من العروض بتسوية وضعه المالي أسوةً بكثيرين من زملائه في صفّ الشرعية اليوم، الذين يتقاضون أموالاً طائلةً تحت لافتة الإعاشة للمتضرّرين

لكنّه رفضها مشترطاً أن تسوّى أوضاع كل أعضاء هيئة التدريس في جامعة صنعاء، في موقف غاية في السموّ والنبل والتجرّد

أمّا على المستوى الوطني العام، فكان موقفه واضحاً وصريحاً، دائم الحديث لمن حوله عن أن اليمن دخل في دائرة من الفراغ والفوضى والعبث بفعل فقدانه لسيادته وقراره السياسي الوطني، وأن هذه المشكلة تمثّل قلب الأزمة الراهنة، أي فقدان اليمنيين قرارهم السيادي والوطني ممّا يجعل اليمن عرضةً للتدخّلات، ولتحوله ساحةً لصراعات الآخرين ومصالحهم ونفوذهم على حسابه، وحساب مصالحه وسيادته واستقلاله

هذه الصورة المكتملة التي قدّمها الظاهري هي التي ينبغي أن تكون أيقونةً للمثقّف المناضل الذي تتطلّبه هذه اللحظة اليمنية المقفرة، المفتقرة لهذا النوع من المناضلين الحقيقين المتجرّدين من كل حظوظ النفس ومصالحها الشخصية الأنانية والضيّقة

هذا الصورة باذخة الجلال والنقاء والشجاعة والصدق، هي الصورة التي يجب أن تكون حاضرةً لدى هذا الجيل، ومن يأتي بعده من اليمنيين الذين تقع على عاتقهم مهمة وطنية عظيمة، هي استعادة اليمن وانتشاله من الوحل الذي وضعته فيه ثلّة من الساسة الفاشلين والسرّاق، الذين قدّموا أسوأ صورة للسياسي اليمني في هذه المرحلة

رحم الله المثقّف والمناضل الوطني الحرّ محمّد محسن الظاهري! وعزاؤنا أنه قدّم هذه الصورة المشرقة، المكلّلة بهذا الجلال والبهاء والعظمة كلّها، صورة للمثقّف والمناضل الحقيقي الذي يتعالى على جراحه وآلامه وحظوظه في سبيل وطنه وأمّته وقضاياها، ولا يقبل فيها المساومة والمقايضة

هذا النموذج المشرق الذي رسمه الدكتور الظاهري مستعيداً بذلك الصورةَ المشرقةَ للطليعة اليمنية المناضلة الأولى في درب أحمد النعمان ومحمّد الزبيري وعبد الله النعمان (الفضول) وأحمد الحورش وإسماعيل الوريث، وكل رفاقهم العظماء رحمة الله عليهم جميعاً

*العربي الجديد