هاني سالم مسهور : عملية البيجر اليمنية.. يد إسرائيل الطويلة
منذ 2 أيام
هاني سالم مسهور لم يعد مقتل أحمد الرهوي، رئيس حكومة الحوثيين في صنعاء، وعدد من وزرائه، مجرد ضربة جوية عابرة في سجل المواجهة بين إسرائيل والجماعة، بل هو إعلان صريح بأن الحرب دخلت طورًا جديدًا، وأن صنعاء لم تعد مدينة مغلقة على خصومها، بل صارت مكشوفة أمام أعين استخباراتية تعرف متى تضرب وكيف تُحدث الصدمة، الاعتراف الحوثي، المتأخر أكثر من أربع وعشرين ساعة، جاء كإقرار بالهزيمة داخل العمق، وكشف عن ارتباك لا يخفى على أحد، فما وقع ليس مجرد اغتيال لرئيس حكومة ميدانية، بل هو تفكيك لبنية سلطوية كانت الجماعة تتباهى بها كواجهة سياسية أمام الداخل والخارج
منذ عامين وإسرائيل تركز ضرباتها على مخازن السلاح ومنصات الإطلاق والموانئ التي يستخدمها الحوثيون في عملياتهم البحرية، لكن استهداف الرهوي ووزراء حكومته يؤشر على تحول نوعي؛ الانتقال من ضرب الهياكل الصلبة إلى ضرب العصب القيادي، إنها المدرسة ذاتها التي اتبعتها تل أبيب مع حزب الله في الضاحية الجنوبية، ومع حماس في غزة، ومع قيادات إيرانية في طهران ودمشق، لقد كسرت إسرائيل عقدة غياب المعلومة الميدانية داخل صنعاء، وأثبتت أن بوسعها الدخول إلى العمق القيادي للجماعة، إن الاعتراف الحوثي “يعكس حجم الاختراق الأمني غير المسبوق،” وهذا وصف لم يأتِ من فراغ، فالجماعة التي اعتادت أن تُنكر وتُخفي خسائرها، وجدت نفسها مضطرة إلى الإقرار، تحت ضغط داخلي وتسريبات متلاحقة، هذا الاختراق قد يكون سيبرانيًا، وقد يكون عبر تسريب من داخل الصف الحوثي ذاته، لكنه في كل الأحوال يُدخل الجماعة في مرحلة من الشك وانعدام اليقين
ولا يمكن النظر إلى الضربة الإسرائيلية بمعزل عن الحسابات الأميركية، واشنطن هي الطرف القادر على كبح جماح إسرائيل أو إطلاق يدها، وهي التي تدير، بعمق، معادلة البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث تمر الممرات التي تُغذي الاقتصاد العالمي، السؤال اليوم: هل ستكتفي الولايات المتحدة بمتابعة الضربات النوعية الإسرائيلية، أم أنها ستنخرط في مشروع تحالف دولي جديد يشبه ما فعلته ضد داعش في العراق وسوريا؟ إن تطورات المشهد توحي بأن الخيار الأميركي هو الحاسم، فواشنطن تعرف أن الحوثي ليس مجرد ميليشيا محلية، بل هو الذراع الأخيرة التي تتحرك باسم إيران بعد تراجع أذرعها الأخرى في لبنان والعراق وسوريا، وإذا كان المشهد في لبنان بعد تصفية حسن نصرالله قد أعاد رسم التوازنات هناك، فإن سقوط حكومة الحوثي في صنعاء قد يكون الشرارة التي تُعجّل بكتابة نهاية المشروع الإيراني في اليمن، وفي حال تم إضعاف صنعاء ستجلس طهران إلى طاولة التفاوض النووي بيد فارغة، وحينها ستُكتب صفحة جديدة في ميزان القوى الإقليمي
إن الولايات المتحدة، وهي ترى إسرائيل تملأ فراغ القوة في البحر الأحمر، ستجد نفسها أمام خيار إستراتيجي؛ فإما أن تعطي الضوء الأخضر لإستراتيجية إسرائيلية شاملة ضد الحوثيين، أو تُحاول إبقاء خطوط الاتصال مع طهران مفتوحة كي لا تنهار المفاوضات النووية، المعضلة الأميركية تكمن في أن أي تقويض حقيقي للحوثي سيعني تجريد إيران من ورقتها الأخيرة، وهو ما قد يُسقط معها أي أمل في عودة الاتفاق النووي
لكن في المقابل، فإن ترك الحوثي يواصل تهديد الممرات البحرية سيضع واشنطن أمام اختبار مصداقية لا يقل خطورة، خصوصًا تجاه حلفائها الخليجيين الذين دفعوا كلفة باهظة في مواجهة هذه الجماعة
أما على الصعيد الداخلي اليمني فإن المعادلة أكثر خطورة؛ ذلك أن الهدنة الممتدة منذ سنوات لم تعد سوى شبكة أوكسجين يتغذى منها الحوثي ليعيد ترتيب صفوفه، فيما القوات اليمنية على اختلاف انتماءاتها تقف عند خط الانتظار، ألوية العمالقة الجنوبية التي صنعت الفارق في معركة الساحل الغربي والحديدة وشبوة، وقوات المقاومة الوطنية في المخا التي رسخت حضورها كخط دفاع أول عن الساحل الغربي، وحتى ما يسمى بـ“الجيش الوطني” في مأرب والجوف وتعز ووادي حضرموت، جميعهم أمام لحظة قرار، فالهدنة ليست ضمانًا للسلام، بل وصفة لاستنزاف الشرعية وبناء قوة الحوثي، وإذا كانت إسرائيل قادرة على اختراق صنعاء وقتل رئيس حكومة بكامل وزرائه، فكيف تبقى القوى اليمنية عاجزة عن اقتحام جبهات أقرب وأسهل؟ المسألة هنا ليست في القدرات العسكرية فقط، بل في الجرأة على اتخاذ القرار
لقد جُرّبت الهدنة مرة تلو أخرى، وثبت أنها تمنح الحوثي الوقت والمساحة لإعادة الانتشار، الجماعة لم تتوقف عن الهجمات البحرية ولا عن إطلاق الصواريخ الباليستية، إنها تستخدم الهدنة كما استخدمتها جماعات متطرفة في التاريخ: فرصة لالتقاط الأنفاس، ثم العودة إلى الهجوم بأدوات أشد فتكًا
وفي هذا السياق تبدو مسؤولية القوى اليمنية اليوم مضاعفة، فإما أن تتحول إلى أداة تثبيت للواقع الذي يصنعه الحوثي، أو تعلن لحظة مواجهة جديدة تُغيّر ميزان القوى
الضربة الإسرائيلية لم تكن معزولة عن البحر الأحمر، فالممر الدولي الذي يصل آسيا بأوروبا صار ميدانًا لصراع مكشوف؛ الحوثي يهدد ناقلاته، وإسرائيل ترد على ضرباته، فيما واشنطن تراقب بعين القائد الذي يملك أن يحرك أساطيله ساعة يشاء، لهذا فإن تداعيات ما حدث في صنعاء تتجاوز حدود اليمن إلى معادلة جيوسياسية تمس مصر والسعودية والإمارات وإثيوبيا وكل دولة يمر اقتصادها من بوابة المندب
من المهم الانتباه إلى أن استمرار المواجهة المباشرة بين إسرائيل والحوثي سيُدخل المنطقة في مشهد أكثر تعقيدًا، خصوصًا أن الجماعة تمتلك صواريخ يصل مداها إلى ألفي كيلومتر، إنها ورقة إيران الأخيرة، وإذا تم كسرها ستسقط طهران في العراء، المقارنة التي فرضت نفسها في الإعلام هي “الضاحية الجنوبية مقابل صنعاء،” كما كان حزب الله يتباهى بحصانته، فإذا بضربات إسرائيل تصله إلى قلب معقله، كذلك فعل الحوثي؛ ادعى التحصين فإذا به يفقد رئيس حكومته في قلب العاصمة التي لطالما اعتقد اليمنيون أنها أحصن مكان على الأرض، هذه الضربات ليست عسكرية فقط، بل نفسية أيضًا، لأنها تزرع بذرة الشك داخل الصف القيادي، وتخلق فراغات لا يمكن ترميمها بسهولة، الجماعة سارعت لتعيين محمد أحمد مفتاح قائمًا بأعمال رئيس الحكومة، لكن ذلك لن يمحو حقيقة أن الائتلاف مع حزب المؤتمر الشعبي يتداعى، فالرجل القتيل كان واجهة المؤتمر داخل حكومة الحوثي، والآن تبدو الجماعة في طريقها إلى ابتلاع ما تبقى من الشراكة، بعد أن وضعت الحزب تحت سيف الاختطاف والإقصاء، وهنا يتضح أن الضربة لم تكن خسارة عسكرية أو سياسية فحسب، بل تفكيك لتحالف داخلي هش
اليمنيون جنوبيون وشماليون اليوم أمام اختبار أخطر من أي وقت مضى، إذا كان الخارج -إسرائيل والولايات المتحدة- قد قرر أن الحوثي لم يعد مجرد شأن يمني، فإن الداخل لا يملك رفاهية التردد، الهدنة التي يُروّج لها بوصفها “فرصة للسلام” ليست سوى استراحة محارب استثمرها الحوثي ليواصل تسلحه، ويبتكر وسائل جديدة للتهديد، إن مسؤولية ألوية العمالقة الجنوبية وقوات المقاومة الوطنية وبقية القطاعات العسكرية ليست في البقاء تحت سقف هدنة ميتة، بل في اتخاذ قرار تاريخي يعيد رسم الخارطة، لا مكان بعد اليوم لمعادلة الشلل، ولا معنى لانتظار مبادرات عقيمة، فاللحظة لا تحتمل إلا خيارًا واحدًا: أن تُستعاد المبادرة على الأرض
ما بعد اغتيال الرهوي يجب أن يكون ليس كما قبله، لقد دخلت صنعاء عصر الاغتيالات النوعية، ودخل الحوثي مرحلة الشك الداخلي، ودخل اليمنيون بدورهم إلى مفترق طرق؛ إما هدنة يتغذى منها عدوهم، أو مواجهة تستعيد قرارهم الوطني بمفهوم الواقعية
فالجنوب سيظل وفيّا لشقيقه اليمني الشمالي، أما القرار الأميركي فسيبقى هو الخيط الذي يربط كل هذه الخيوط ببعضها البعض؛ فإذا أرادت واشنطن أن تُكتب نهاية الحوثي، فستكون نهاية سريعة وحاسمة، لكن الأكيد أن التاريخ لا ينتظر المترددين، ففي لحظات كهذه لا يصنع المستقبل إلا من يملك شجاعة اتخاذ القرار
فعلاً، اليد الإسرائيلية طويلة، وقوية، وقاتلة، غير أن السؤال الأهم: هل لهذه اليد عقل يستوعب أن القوة ليست كل شيء؟ فحتى لو سقط آخر مخالب إيران، فهذا لا يعني أن خامنئي سيرفع الراية البيضاء، فكرة الاستسلام ليست موجودة في قاموس المؤدلجين، هكذا كان أسامة بن لادن، وهكذا كان الظواهري، وكذلك البغدادي، وسيكون الأمر ذاته مع خامنئي، حتى وإن اعتاد على شرب كؤوس السم المريرة
نقلا عن العرب