هاني سالم مسهور : قراءة في العقل العربي بعد الهزيمة الإيرانية
منذ 43 دقائق
هاني سالم مسهور الهزائم ليست كلها على شاكلة المعارك الطويلة أو الاجتياحات الشاملة، أحياناً تأتي على هيئة أيام قليلة لكنها تكفي لتقلب مفاهيم القوة رأساً على عقب، حرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت لحظة انكسار إستراتيجي بحجم هزيمة يونيو 1967 عند العرب، الفارق أن الهزيمة العربية آنذاك أطاحت بطموح مشروع الوحدة والقيادة القومية، بينما الهزيمة الإيرانية اليوم أصابت في مقتل سردية “المقاومة” التي بنتها طهران منذ 1979 وربطتها بالبعد العقائدي لفكرة الإمام الغائب ودور ولاية الفقيه في قيادة معركة “نهاية الزمان” ضد الاستكبار
الوقائع لا تحتاج إلى الكثير من الجدل
لأول مرة في تاريخها الحديث، تتلقى إيران ضربة أميركية مباشرة على أراضيها بأمر من دونالد ترامب، في لحظة كانت تحاول فيها أن تدير مواجهة متعددة الجبهات مع إسرائيل عبر وكلائها، النتيجة كانت انهيار قدرة الردع الإقليمي التي كانت تُسوّق كضمانة لبقاء نفوذها، وانكشاف معظم خطوط الإمداد والتموضع في سوريا ولبنان والعراق واليمن، لقد كشفت تلك الأيام القليلة هشاشة منظومة إيرانية كانت تقدم نفسها على أنها صلبة ومحصنة ضد أيّ اختراق
هذه الحرب القصيرة أجبرت العقل السياسي الإيراني على التحول من إستراتيجية توسيع الجبهات إلى تقليص المخاطر لم يعد السؤال في طهران هو كيف نفتح جبهة جديدة؟ بل كيف نحافظ على ما تبقى من نفوذ بأقل كلفة ممكنة؟ وكيف نسيّل هذا النفوذ في تسويات تحفظ الحد الأدنى من الرمزية دون أن نستنزف القدرات العسكرية والاقتصادية؟ والأهم، كيف يمكن لطهران أن تخرج من مأزقها من دون أن تفقد ماء الوجه أمام جمهورها الداخلي والإقليمي الذي بُني على أساطير القوة والانتصار الحتمي؟لبنان هو المثال الأكثر وضوحاً على هذا التحول، حزب الله، الذراع الأبرز لإيران على المتوسط، بدأ يرسل إشارات عملية لقبول جدول زمني لتسليم سلاحه خلال سنة، والحكومة اللبنانية أعلنت ذلك بلا مواربة، هذا ليس ثمرة تفاهم داخلي لبناني، ولا استجابة لقرار سيادي، بل نتيجة مباشرة لميزان قوى إقليمي انقلب رأساً على عقب، فطهران تدرك أن الاحتفاظ بسلاح ثقيل ظاهر في جنوب لبنان صار عبئاً، وأن التضحية بجزء من قوة الحزب العسكرية قد تكون ضرورة لشراء مساحة تنفس سياسية ودبلوماسية، وربما لكسب ضمانات تمنع انهيار ما تبقى من نفوذها هناك
لكن الانكماش الإيراني لا يقتصر على لبنان في العراق، فصائل الحشد الشعبي الموالية لطهران تواجه ضغوطاً أميركية وحكومية متزامنة لإعادة تعريف أدوارها، إما عبر اندماج شكلي في الدولة أو الانسحاب من خطوط الاحتكاك المباشر مع القوات الأميركية، هذه الضغوط، التي كانت مرفوضة أو مستحيلة التنفيذ قبل حرب الـ12 يوماً، أصبحت اليوم مطروحة بجدية لأن طهران لم تعد قادرة على فرض إيقاعها على بغداد كما في السابق، فالخيط الناظم هنا أن مشهد نزع السلاح أو تحجيمه بات جزءاً من سياسة إيرانية عامة لإغلاق الجبهات المكلفة، ليس فقط عسكرياً بل اقتصادياً وسياسياً أيضاً
وفي شمال اليمن، حيث كان الحوثيون الورقة الأطول نفساً في يد إيران، بدأت المؤشرات على إعادة التموضع تظهر هي الأخرى، فصحيح أن الحوثيين لم يعلنوا نية تسليم سلاحهم، لكن البحر الأحمر صار تحت مراقبة دولية لصيقة، والقدرة على تهديد العمق السعودي أو ضرب إسرائيل بالصواريخ والطائرات المسيّرة تراجعت بشكل كبير في الخطاب الحوثي، الذي كان يتسم بالتحدي، وبدأت تتسرب مفردات جديدة مثل “رفع الحصار” و”إعادة الإعمار” و”التسوية الشاملة”، هذه اللغة، التي لم تكن واردة في ذروة اندفاع المحور الإيراني قبل الحرب، تكشف أن الحسابات تغيرت وأن أولويات البقاء باتت تسبق أولويات المواجهة
كما أن الثقة في القوات الجنوبية، عسكريًا وأمنيًا، قد تعاظمت بفضل قدرتها على الضبط السياسي والثبات العسكري، فإن مؤشرات هذه القدرة أثمرت عن انتعاش اقتصادي ملحوظ داخل المحافظات التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي الجنوبي، بدعم أميركي وإماراتي واضح، بما يكرّس أمرًا واقعًا في هذه المحافظات باعتبارها رافعة وطنية ضمن المنظومة الإقليمية
هذه التحولات ليست تكتيكية فحسب، بل تعكس إعادة صياغة في العقل السياسي الإيراني، فللمرة الأولى منذ أربعة عقود، تجد طهران نفسها مضطرة لأن تفكر بعقلية إدارة الانكماش بدل إدارة التمدد، وهذا تحوّل بنيوي سببه الهزيمة الميدانية، وضغط الداخل الإيراني المثقل بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن انكشاف أسطورة الحصانة أمام الضربات المباشرة
لكن وسط هذه اللحظة الفارقة، يطل التحدي العربي الحقيقي ألّا نكرر الخطأ التاريخي في استثمار لحظات الانكسار الإقليمي لصالح رهانات عقائدية قصيرة النظر، لقد جرب العرب من قبل فكرة الاستثمار في الجماعات الدينية المسلّحة خلال تجربة “الأفغان العرب” عام 1979، فكانت النتيجة إرهاباً عابرًا للحدود، وخراباً سياسياً، وتشويهاً لصورة الإسلام نفسه أمام العالم، يومها دخلت بعض العواصم العربية في سباق دعم وتمويل وتجنيد تحت شعارات دينية براقة، دون حساب لعواقب إطلاق وحش عقائدي من عقاله
اليوم، هناك من يراهن على نفس الفكرة، بل ويذهب أبعد من ذلك باستدعاء الأمويين من قبورهم، وكأننا في حاجة إلى أن يأتي آخرون لاستدعاء العباسيين، لنجد أنفسنا ندور مجدداً في دائرة العقل العربي القديم الذي ظل يتصارع في حرب داحس والغبراء لأربعين عاماً، فهذا النمط من التفكير لا ينتج سوى حروب أهلية مؤبدة، وموجات انتقام تاريخية تستهلك الأجيال وتغرقنا في مستنقعات لا نهاية لها
المطلوب اليوم عقل عربي واقعي، لا يرى في الهزيمة الإيرانية مجرد فرصة لتبديل لاعب بآخر من نفس المدرسة العقائدية، بل فرصة لتصفية إرث الميليشيات والجماعات المسلحة أيّاً كانت مرجعيتها، وبناء منظومة أمنية وسياسية عربية تعطي الأولوية لسيادة الدولة ومصالح الشعوب، وهذا يعني أن أيّ فراغ تتركه إيران في ساحات نفوذها يجب أن يُملأ بسيادة وطنية قوية ومؤسسات شرعية، لا بميليشيات جديدة ولا بواجهات دينية مسيسة
إن أخطر ما يمكن أن يحدث الآن هو أن نتعامل مع هزيمة إيران بعقلية الانتقام الطائفي أو إعادة تدوير الوكلاء، لأن ذلك سيمنح طهران الوقت والمساحة لإعادة ترميم نفوذها، وربما بوجوه وأدوات مختلفة، لكنها ستعود إلى نفس الإستراتيجية التوسعية، وهذا بالضبط ما حدث بعد 1967 عندما ترك العرب لإسرائيل فرصة ترسيخ تفوقها، لأنهم اكتفوا بالشعارات الثورية والوعود الفضفاضة بدل أن يبنوا قوة حقيقية على الأرض
حرب الـ12 يوماً لم تغيّر فقط ميزان القوى العسكري، بل فرضت تحولاً عميقاً في العقل السياسي الإيراني، من عقلية الهجوم والتوسع إلى عقلية الدفاع والانكماش
هذا التحول يخلق فراغات في ساحات النفوذ من لبنان إلى العراق واليمن، والعقل العربي الذي يستوعب هذا المتغير ويتعامل معه بواقعية يمكن أن يحوّل هذه اللحظة إلى فرصة تاريخية لتثبيت السيادة الوطنية وإعادة رسم قواعد اللعبة الإقليمية
أما إذا ضاعت هذه الفرصة، فسنعيد إنتاج دورة النفوذ الإيراني، وسنكتشف بعد سنوات أننا لم نقرأ جيداً لحظة الهزيمة حين وقعت أمام أعيننا، وسنكون حينها قد أضعنا فرصة نادرة لإعادة صياغة موازين القوى في منطقتنا
نقلا عن العرب