هل يُعدّ تخريب كابلات البحر الأحمر مؤشراً على جبهةٍ جديدة في أمن الملاحة البحرية؟

منذ 2 ساعات

من السهل أن ننسى أن الجزء الأكبر من حركة الإنترنت العالمية لا يمرّ عبر الأقمار الصناعية أو “السُحب” البعيدة، بل يجري في أعماق محيطاتنا، عبر آلاف الكيلومترات من الكابلات البحرية المصنوعة من الألياف الضوئية

هذه الخطوط الممتدة على قاع البحر تُعدّ الشرايين غير المرئية للاقتصاد الحديث، إذ تنقل يومياً تريليونات الدولارات من البيانات المالية، وتُسند البنية التحتية الحيوية، وتشكل العمود الفقري للتجارة العالمية والدبلوماسية الدولية

تحمل الكابلات البحرية أكثر من 95% من حركة بيانات الإنترنت حول العالم، وتمتد عبر ما يقرب من 1

5 مليون كيلومتر في قاع المحيطات

وكما تمثل الموانئ وخطوط الملاحة ركائز أساسية للتجارة العالمية، فإن هذه “سلاسل الإمداد الرقمية” تمثل بدورها العمود الفقري لعالمنا المترابط

قابلية التأثر العالميةسلّطت سلسلة الحوادث التي شهدها البحر الأحمر هذا العام الضوء على هذه الحقيقة الخفية

فسواء كانت ناجمة عن أعمال تخريب متعمّدة أو عن حوادث بحرية، فإن انقطاع عدة كابلات إنترنت تحت البحر خلّف آثاراً متسلسلة عبر القارات: ارتفع معدل التأخير في الاتصالات، وتباطأت الخدمات، وتعطّلت بعض العمليات الحيوية

وقد أكدت هذه الانقطاعات مدى هشاشة الاتصال العالمي عندما تتعرض نقاطه الحساسة للضرر

ووفقاً للجنة الدولية لحماية الكابلات، يُبلَّغ سنوياً عن ما بين مئة إلى مئتي حادثة تتعلق بالكابلات البحرية، في مؤشرٍ على مدى تعرض هذه الشبكات الحساسة وتكرار تعطلها

وتُظهر الحوادث الأخيرة أنه عندما تتعرض هذه الأصول الحيوية للاعتداء أو التلف، فإن تداعيات ذلك تمتدّ عبر الاقتصادات والسياسات والمجتمعات

يشكّل البحر الأحمر مساراً حيوياً لنقل جزء كبير من بيانات الإنترنت بين أوروبا وآسيا

ورغم أن المخاطر التي تهدد الكابلات البحرية ليست جديدة، إلا أن التطورات الأخيرة تسلّط الضوء على تزايد مستوى انكشافها، وعلى ضرورة إدراج حمايتها ضمن أُطر أمن الملاحة البحرية

ويعكس ذلك واقعاً أمنياً جديداً تتحدى فيه الجهات غير التقليدية حدود حماية البنية التحتية، والتنسيق الأمني، والاستعدادات الجيوسياسية

فالكابلات التي تربط العالم رقمياً باتت بشكل متزايد أهدافاً مادية في عالمٍ تتقاطع فيه الصراعات وعدم الاستقرار والحسابات الاستراتيجية

وهذه المعضلة تتطلب اهتماماً أكبر بكثير مما تحظى به حالياً

نقاط الاختناق والتعقيداتيُعدّ البحر الأحمر، ولا سيما مضيق باب المندب، عقدة محورية في حركة الملاحة العالمية

وهذه الكثافة الاستراتيجية تجعل المنطقة شديدة الحساسية أمام أي اضطرابات برية، وغالباً ما تعكس تلك التهديدات نفسها تحت سطح الماء

فعندما تسعى الجهات المعادية إلى كسب نفوذ، فإنها تستهدف عادةً الأهداف عالية القيمة والمنخفضة الظهور، والكابلات البحرية تجسّد هذا النمط تماماً

تُعدّ الكابلات البحرية عنصراً حيوياً، لا لارتباط دولةٍ واحدة بالعالم فحسب، بل لمناطق بأكملها وللنظام العالمي برمّته

فالكابل الواحد يمكن أن ينقل البيانات بين قاراتٍ متعددة ودولٍ متباعدة، من الهند وشرق أفريقيا إلى أوروبا والخليج

وإذا ما استهدفت عملية تخريب واسعة عدداً من هذه الكابلات في وقتٍ واحد، فقد يؤدي ذلك إلى انقطاعات طويلة الأمد، وتراجعٍ في سرعة الإنترنت، وتأخيراتٍ مالية، وتعطّلٍ في العمليات المعتمدة على الخدمات السحابية لملايين المستخدمين

وغالباً ما يستغرق إصلاح هذه الكابلات أسابيع أو حتى أشهراً، بسبب الحاجة إلى سفن متخصصة وعمليات معقدة لانتشالها من قاع البحر، وإجراءات دقيقة للوصل والربط، فضلاً عن التنسيق الدولي المطلوب

ومنع حدوث اضطرابات مستقبلية يتطلب الاستثمار في مسارات بديلة، وتطوير تقنيات المراقبة، وتعزيز تبادل المعلومات الاستخبارية حول التهديدات، ووضع أطر جديدة للتعاون بين القطاعين العام والخاص في مجال البنية التحتية البحرية، بحيث تُعامل هذه الكابلات بوصفها أصولاً للأمن القومي لا مجرد مرافق تجارية

يُظهر مشهد التهديدات أنه آخذ في التطور، وبالتالي لا بد أن يتطور نهج التعامل معه

وقد حان الوقت لتصنيف حماية الكابلات البحرية كقضيةٍ محورية في أمن الملاحة البحرية

ويعزز تقرير برلماني بريطاني حديث هذا التوجّه، إذ يؤكد أن الكابلات البحرية لم تعد مجرد بنية تحتية للاتصالات، بل أصبحت تمثل خط الدفاع الأول في الأمن الوطني

وهذا يعني دمج حماية البنية التحتية ضمن الإطار الأوسع للوعي البحري، والقدرة على الصمود، والتعاون الدولي

رهانات مالية ضخمةتستغرق مشاريع الكابلات البحرية ما بين 24 و36 شهراً من مرحلة التخطيط الأولي حتى مرحلة التشغيل الكامل

وغالباً ما تتأثر الجداول الزمنية بعوامل متعددة، منها إجراءات التصاريح وعمليات المسح في أعماق البحار وغيرها من الاعتبارات التقنية

ووفقاً لمسار المشروع وتكوينه، يمكن أن تتراوح تكلفة الأنظمة الجديدة بين 200 و250 مليون دولار أو أكثر، ما يعكس الأهمية الاستراتيجية والرهانات المالية الكبرى المرتبطة بحماية هذه الاستثمارات الحيوية

كما أن الابتكار التكنولوجي سيكون جزءاً أساسياً من أي حلّ طويل الأمد

فأنظمة الإنذار المبكر، والمراقبة المتقدمة بالسونار، والتحليلات المعززة بالذكاء الاصطناعي لحركة السفن، يمكن أن توفر طبقات جديدة من الحماية الوقائية

ومع ذلك، فإن التكنولوجيا وحدها لا تستطيع معالجة ما هو في جوهره مشكلة بشرية واستراتيجية

لذا يتعيّن على قطاع الملاحة البحرية العمل على بناء رؤية تشغيلية مشتركة أكثر صلابة تتجاوز حدود القطاعات والدول، بحيث تُدرج البنية التحتية تحت البحر ضمن التعريف الجوهري للأصول البحرية الحيوية

ضرورة أمنية ملحّةكشفت الأحداث التي شهدها البحر الأحمر عن الأهمية الاستراتيجية للبنية التحتية التي تربط مجتمعاتنا الرقمية ببعضها البعض

فاليوم، أصبحت هذه الكابلات أصولاً جيوسياسية لا تقلّ أهمية عن خطوط الملاحة البحرية أو ممرّات الطاقة، ويجب حمايتها بالمستوى نفسه من الرؤية الاستباقية والحذر الاستراتيجي

إن بناء القدرة على الصمود يتطلب تنويع نقاط الهبوط، وتعزيز أنظمة المراقبة اللحظية، وتطوير أطر التعاون العابرة للحدود، وتبنّي عقليةٍ جديدة تعتبر الاتصال الرقمي ركناً أساسياً من الأمنين الوطني والإقليمي

أما التحدي الحقيقي فيكمن في الاستشراف المسبق — أي في كيفية تنسيق الجهود بين الحكومات، والجهات المشغّلة الخاصة، والمنظمات الدولية قبل أن تقع الاضطرابات القادمة

فالتحرك الوقائي في هذا المجال لم يعد خياراً ترفيهياً، بل ضرورة استراتيجية لضمان استقرار الاقتصاد العالمي، وأمن سلاسل الإمداد، وسلامة الاتصالات الدولية في عصر تتداخل فيه التكنولوجيا مع الجغرافيا السياسية على نحوٍ غير مسبوق