وفاة موسيقار يمني دون أن يلتفت له أحد من المعنيين

منذ 2 سنوات

الموسيقار ناجي القدسيأعماله و أهم مفاصل حياتهفتش عنها و وثقها: علوان الجيلانيولد في عطبرة (أتبرا) سنة 1944م

كان توأماً لآخر سبقه إلى الوجود بدقائق- لذلك سماهما أبوه الحسن و الحسين تيمناً بسبطي الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم

ظل ناجي يحمل اسم الحسين حتى بلغ سن الحبو

حين تعرض هو و توأمه الحسن لتسمم أودى بالتوأم (الحسن) و نجا هو منه

الأمر الذي جعل أباه يناديه بالناجي و استساغت الأسرة و الجيران الاسم حتى لصق به

و لم يعد يسمى بغيره

====================================والده محمد الهيثمي غادر اليمن منذ أوائل العقد الثالث من القرن العشرين تاركاً في قرية الحدالة بمنطقة العدين محافظة إب (وسط اليمن) زوجته و ابنه البكر عبد الله

و من شرق السودان تزوج بالشريفة فاطمة محمد سعيد من أسرة السيد الحسن الميرغني

التي أنجبت له خمسة أولاد و أربع بنات

كان ناجي مع توأمه الذي مات ولادتهاالثالثة

التحق ناجي في عطبرة أو (أتبرا) كما كانت تسمى وقتها بخلوة الفكي حسين في حي أبشوش جوار جامع أبشوش حيث كانت أذنه تلتقط روائع التلاوات

ثم انضم إلى الكامبوني الذي كان من بين المدرسين فيه إيطاليون كانت لهم صالة بعيدة عن الفصول يعزفون فيها ضروباً من الموسيقى العالمية (سمفونيات، كونشيرتات، سوناتات، موسيقى حجرة)

و هناك اكتشف ناجي شغفه المصيري بالموسيقى فكان يتسرب من حصص الدراسة متسللاً إلى صالة الموسيقى حيث تأخذه أنامل عازفة إيطالية إلى عوالم تسحر روحه و تملك شغافه

بموازاة ذلك كانت أذناه الحساستان تصغيان دائماً لكل نغمة تندلع من آلة أو حنجرة

أو جهاز إلى جانب أغاني الأمهات و حضرات المديح

و غناء العمال و الأغاني التي تنقلها أجهزة الراديو من الإذاعة المصرية لكبار فناني مصر و الشام

و ما هي إلا فترة قصيرة حتى استقطبت حواسه عروض السينما في عطبرة

فتوله بالأبطال المغنيين

محمد عبد الوهاب

فريد الأطرش

أم كلثوم، أسمهان، ليلى مراد، كارم محمود، عبد العزيز محمود و غيرهم

رأى كيف يعزفون على العود

و كيف تصورهم المشاهد و هم يلحنون

فصنع آلة بدائية من خشب و أسلاك و جعل من براد شاي قديم ميكرفوناً و صعد إلى شرفة عالية في البيت و اندمج في الغناء حد نسيانه الانتباه لنفسه فانزلق متردياً

كسرت ساقه اليسرى و ذراعه اليسرى

و ظلت عرجة خفيفة تلازم مشيته من حينها حتى اليوم

في حوالي العاشرة من عمره سنة 1954م تقريباً انتقل مع أسرته إلى مدينة سنار

حيث التحق بالمعهد العلمي في سنار

و بسبب شغفه اللافت بالأحاديث القدسية لقبه الكابتن ميرغني حامد حارس مرمى فريق الاتحاد بـ (القدسي) و أحبتها شفاه زملاؤه و أساتذته حتى اشتهر بها (ناجي القدسي)

إلى جانب الدراسة في المعهد العلمي أشبع شغفه حباً في الأفلام الغنائية حتى أنه عمل معلناً عن الأفلام

يروج لها بالميكرفون في شوارع سنار على عربة يجرها حمار

في نفس الوقت كان يكون مع الشيخ إبراهيم سليم و آدم محمد صالح فرقة غنائية

و بمفرده و حساسيته الفنية المفرطة تعلم العزف على العود

و بدأ التلحين و هو في الثانية عشرة تقريباً

عَمَلُ أبيه بالتجارة و بحثه الدائم عن بيئات رواج تجاري أفضل قاد الأسرة إلى الخرطوم بعد منتصف الخمسينات من القرن الماضي

و هناك واصل ناجي القدسي السعي لإشباع نَهَمِه للإبداع الموسيقي

فالتحق بمدارس الجامعة الشعبية حيث درس الموسيقى على يد أستاذ العود المصري عبد المنعم عرفة

في السادسة عشرة من عمره أبدع أول تأليف موسيقي خاص به مقطوعة (آمال) التي سجلتها أوركسترا الإذاعة السودانية سنة 1961م، و في ذات السنة كون مع الشاعر حسين حمزة و أخيه الفنان هاشم حمزة و عوض الله أبو القاسم فرقة فنية في الهاشماب بأم درمان

و لحن ناجي مجموعة من القصائد للشاعر حسين حمزة هي (جسمي انتحل، ضاع مع الأيام، سلوى، الدبلة، الصداقة، لاقيني في الأحلام)، و قد سُجِّلت كلها للإذاعة السودانية سنة 1961م بصوت الفنان هاشم حمزة و لاقت رواجاً كبيراً

ما لبث عقد تلك الفرقة أن انفرط بسفر الفنان هاشم حمزة إلى أوروبا الشرقية للدراسة

 و خلال عام 1962م

قام نجم الغناء الصاعد أبو عركي البخيت بغناء (جسمي انتحل) التي طبقت شهرتها آفاق السودان

و اشتهر البخيت بها كما اشتهرت به دائماً

أما لحن (ضاع مع الأيام) فقد تم استبدال كلمات الشاعر حسين حمزة بكلمات الشاعر مرتضى صباحي (خلاص مفارق كسلا) التي أطلقت نجومية التاج مكي فتحول مع الملحن ناجي القدسي إلى ثنائي بالغ الروعة

من خلال أربعة ألحان أخرى هي (النضارة) من شعر عز الدين هلالي، و (التينة) من شعر عبد الرحمن مكاوي، و (ليلة الميلاد أو روح بابا) من شعر إسحاق الحلنقي و (أهل المحبة)

من شعر إسحاق الحلنقي و قد تم ذلك على مدار الأعوام 1962-1966م، في الفترة نفسها لحن أنشودتين وطنيتين (أم الثورات) من شعر محمد أحمد سوركتي و (الثورة ثورة شعب) من شعر إسحاق الحلنقي غناهما التاج مكي أيضاً

كما لحن للفنان بهاء الدين عبد الرحمن نشيد (يا بلادي)

من شعر اللمين بلة، و لحن للفنان محمد اللمين (شعبي الحامي أرض النيل) من شعر هاشم صديق و (رغم السيف) من شعر هاشم صديق و (قم للمعلم) من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، كما اشتغل على ملحمة لثورة أكتوبر من شعر حسين حمزة بمشاركة الفنانين أبو عركي البخيت و خليل إسماعيل و بهاء الدين إسماعيل و عوض الحاج

- سنة 1967م كان الشاب العبقري قد بلغ ذروة انفجاره الإبداعي

ففي بداية ذلك العام قاده منصور منصفون صاحب شركة منصفون للإنتاج الفني إلى التلحين لمبدع صاروخي الانطلاق هو الفنان حمد الريح

و كان لحن (الحقيقة) أول ألحانه له من له

و ذات ليلة من ليالي عام 1967م التقى ناجي في أمسيةٍ بالشاعر المختلف عمر الطيب الدوش

الذي أعطاه كلمات (الساقية لسه مدورة) و خلال ليلتين على رملة شاطئ بحري و فوق مياه النيل أنجز اللحن الخالد الذي صار دهشة ليالي الخرطوم و سهراتها قبل أن يكون على موعد قريب مع صوت الفنان حمد الريح و حتى يتحقق ذلك أتبعه الموسيقار المنهمر بجملة ألحان لحمد هي: (أحلى منك) و (خليتني ليه أعيش الشقا) من شعر عبد الرحمن مكاوي، و (حمام الوادي)، و (أنتو في وادي) للشاعر إسحاق الحلنقي، (و سلم بعيونك) للشاعر محمد أحمد سوركتي

في سنة 1969م أصدرت شركة منصفون جميع ألحان الموسيقار ناجي القُدْسِي للفنانين حمد الريح و التاج مكي، و أبو عركي البخيت على اسطوانات طبعت بجودة عالية في اليونان فملأ صداها الدنيا و شغل الناس

وتحولت أغنية (الساقية) من وقتها إلى واحدة من أهم علامات الموسيقى السودانية عبر تاريخها كله كما اتضح بها و بمجموع الأغاني التي أصدرتها منصفون ذلك العام

أسلوب هذا الموسيقار المميز و بصمته الخاصة في سياق الموسيقى السودانية

- في نهاية 1969م ذهب إلى سنار حيث أنجز لحنه الخالد (الشيخ فرح وَد تكْتوك) من شعر إسماعيل حسن أوائل سنة 1970م و هو اللحن الذي صدح به فيما بعد الفنانان السر نايل و فرح الجنينة، كما تغنت به كثير من فرق التصوف في السودان

بعد إنجاز لحن الشيخ فرح عاد إلى الخرطوم و عمل موسيقى مسرحية بوابة حمد النيل

و أنجز ألحاناً أخرى منها (أزرع العتمور أزاهر) من شعر يونس السنوسي و غناء الفنان زيدان إبراهيم و (عباد عباد الشمس يا عبادا) من شعر حسن ساتي و غناء زيدان إبراهيم

في نفس الفترة أنجز أربعة ألحان على قصائد للكاتب الكبير محمود محمد مدني هي (أمشي و تعال يا شوق) (يا سكة مشاية) و (أشتاق ليك)، (زي عيونك أصلو ما في) و لم تجد هذه الألحان طريقها إلى النور حتى اليوم

سنة 1970م أيضاً التحق بمعهد الموسيقى في الخرطوم و واصل فيه تعليماً متقطعاً حتى السنة الثالثة و لم يكمل الدراسة في المعهد

أثناء هذه المرحلة لحن للفنان الجيلاني الواثق أغنية (قايلك خلاص) من شعر علي سلطان

و لحن للفنان عبده الصغير (كيفن

كيفن) شعر عباس الهاشمي

و كانت أهم إنجازاته في فترة المعهد بين 1970-1971م هو تلحينه لألحانه الثلاثة العظيمة (مهما هم تأخروا، أو أجراس العودة) و هي مزيج من مقاطع شعرية لمحمود درويش و نزار قباني، إضافة إلى الأبيات الشهيرة (طلع البدر علينا) و قد وضع لحنها على مقاييس صوت الفنانة فيروز و لكن حالت ظروف على رأسها الحرب اللبنانية دون وصوله باللحن إليها

ثم رائعة الشاعر حسن ساتي (تراتيل) و رائعة إسحاق الحلنقي (وين خمايلك يا بنفسج)

و أنجز قطعته الموسيقية (ليالي سنار) التي سجلت على عود منفرد و دف لإذاعة أم درمان، و قدم كورال و أوركسترا المعهد العالي للموسيقا لحنه (قم للمعلم) في احتفالات عيد المعلم بقيادة الموسيقار الكوري أوسان شون

-في يوليو 1971م كان الموسيقار الفذ ناجي القدسي قد بلغ السابعة و العشرين من عمره

و بلغ ذروة النجاح الإبداعي بكل ما تعنيه الكلمة

و في نفس الوقت كان على أعتاب أول المراحل في متاعبه و معاناته التي ما زالت حلقاتها تتوالى إلى هذه اللحظة

بدأت رحلة المعاناة بدخوله سجن كوبر على خلفية ترديد المتظاهرين لهتافات مناوئة للنظام على موسيقى لحنه الخالد (الساقية لسة مدورة) و ذلك أثناء تداعيات انقلاب هاشم عطا

و حين خرج من السجن بعد ثلاثة أشهر قضاها فيه

وجد نفسه قد خسر كل كل شيء

فقد ضُرِب حوله حصارٌ فني و سدت الأبواب دونه و فقد الحب الذي أجج في روحه كل إنجازاته الإبداعية التي حققها منذ عام 1966م حتى عام 1971م و جرب لأول مرة في حياته معنى أن يتعرض المرء لتخلي أصدقائه الخُلَّص عنه

-سنة 1972م أدت تداعيات ما مر به بعد دخوله سجن كوبر إلى إصابته بأزمة نفسية حادة جعلته يعيش حالة من القتامة و التدهور و الظلام، راح يصارعها بموسيقاه الملهمة التي كانت نوافذ لروحه الموجعة

فاتجه بقوة إلى التصوف و التأمل لينجز قامات لحنية شواهق

بدأها بثلاث عتبات صغار هي (البحر) و (بنيت فردوسي و زخرفته) لإيلياء أبو ماضي، و (اللاذقية) لأبي العلاء المعري، قبل أن يدخل في حوار إبداعي استثنائي مع الشاعر المتفرد محمد مفتاح الفيتوري من خلال قصيدته (معزوفة لدرويش متجول)، و (ياقوت العرش) ثم دخل في صمت قاتل لأكثر من سنة استفزته بعدها حادثة اجتماعية فأنجز لحن (المحكمة) من شعر عباس الهاشمي

و مع هذه التجربة الفنية المميزة

عاش الموسيقار الموجوع دفيناً مع عبقريته في ظلام الأزمة و العزلة و الحصار غير المفسر الذي ضرب عليه

فقد تحاشت حناجر المطربين ألحانه

و أدى هذا إلى تأزم علاقاته بكل من حوله

و ظل عذابه يتفاقم حتى أصابه اليأس من أي انفراج فغادر السودان نهاية عام 1976م إلى السعودية

حيث عاش هناك متنقلاً بين العمل في مكتبات شارع الجامعة، و شركة تهامة للدعاية و الإعلان

و قدم أثناء ذلك للفنان الكبير محمد عبده لحن (دعوا الوشاة) من شعر البهاء زهير، و سجل هو لإذاعة جدة بمصاحبة أوركسترا الإذاعة عملين موسيقيين هما (ليالي جدة) و (ليالي بحري) إضافة إلى لحن (غبت عني فما الخبر) من شعر البهاء زهير

أداه بصوته

-قبل نهاية عام 1979م انتقل للعراق حيث استقبل بشكل جيد

و أحيط برعاية خاصة و رتبت له أوضاع السكن و العيش و التحق بكلية الفنون الجميلة في بغداد بغرض التعرف على المقام العراقي

و خلال عام كامل قضاه هناك أنجز خمسة ألحان على كلمات كتبها هي (فين القمر غاب) و (تسرعت و جيتك) و (لا تقابلني بدموعك) و (مضى عام) و (غربتني)

مستعملاً السلم السباعي كما أنجز لحن ملحمة (الحجاج وقف) من شعر بدر الدين مدثر، و لحن ملحمة (أسرج خيولك) للشاعر اللبناني موسى شعيب

إضافة إلى نشيد (الثورة ثورة شعب)، الذي لحنه سنة 1964م على السلم الخماسي حيث قدمه لإذاعة العراقعلى السلم السباعي

نهاية سنة 1980م عاد الموسيقار ناجي القدسي إلى السودان حيث التقى بالفنان الظاهرة مصطفى سيد أحمد و قدم له ألحانه الثلاثة العظيمة التي كان قد أنجزها بين 1970-1971م و هي (مهما هم تأخروا أو أجراس العودة) و (تراتيل) و (وين خمايلك يا بنفسج)، و حاول وقتها محاولته الأولى و الأخيرة لبناء أسرة

حين أقدم على الخطوبة

و كان وقتها قد بلغ سن السابعة و الثلاثين من عمره

و لكن الفشل كان نصيب خطوبته تلك

إذ لم يكن دافعه إليها ذاتياً بقدر ما كان استجابة لإلحاح أسرته

-عند مطلع سنة 1982م كانت المعوقات التي أحاطت بتعاونه مع الفنان الظاهرة مصطفى سيد أحمد

إضافة إلى شعوره بتغير مفزع يشهده المناخ الفني في السودان

قد أحبطته

و أعادته إلى ذكريات الألم و العزلة و الحصار التي عاناها عقب خروجه من سجن كوبر سنة 1971م و حتى سنة 1976م فتكوم على نفسه لبعض الوقت

-و في ربيع عام 1982م غادر السودان إلى اليمن بلاد أبيه و أجداده

و في اليمن فوجئ بنفسه يدخل النفق المظلم بكل معنى الكلمة

فقد واجه مناخاً صعباً بيروقراطياً ينعدم فيه العمل المؤسسي انعداماً كلياً

و تحاصر فيه الفرص حصاراً تاماً

و يستحيل فيه الاعتراف بالعبقريات الإبداعية العظيمة ما لم تكن متكئة على سند من منصب أو حزب أو شلة أو قبيلة

و لم تكن ثمة فضيلة في وضعه الجديد إلا الراتب و السكن اللذان أقرتهما له وزارة الإعلام و الثقافة

غير ذلك فقد تقصدته الإدارة بالاضطهاد و التهميش على نحو يكشف عن مدى الجهل الذي كانت تعانيه تلك الإدارة

على أنه خلال سبع سنوات عجاف امتدت حتى عام 1989م لم يستسلم

فقد أنجز عدة ألحان على نصوص للشاعر عبد العزيز المقالح و لحن ملحمة (أيقونة التاريخ)للشاعر حسن اللوزي (وزير الإعلام و الثقافة في اليمن وقتها) و لحن (أتدرين) للشاعر علي بن علي صبرة (نائب وزير الثقافة وقتها) و لحن (الشجرة) للشاعر عبد الله الكباري

كما لحن ثلاث أغانٍ لأعياد سبتمبر

و هي كلها ألحان لم يجنِ عنها شيئاً من التقدير المادي أو المعنوي

و لم يكن يخفف عنه بعض معاناته إلا أصدقاء من المبدعين الخُلَّص الذين لا سلطة لهم

مثل الموسيقار علي الأسدي، و الفنان عبد الرحمن الغابري و أعضاء فرقة الموسيقى بالوزارة من أمثال الفنان عبد الباسط الحارثي و الفنان عبد الرحمن الغابري و الفنان عبد اللطيف يعقوب، و الفنان أحمد الخالدي و الفنان أحمد المعطري و الفنان الكاتب صبري الحيقي، و الفنان حسن علوان، و الموسيقار و الناقد الفني جابر علي أحمد و الفنان يحيى الشلال

بسبب ذلك نجد له في ذلك العماء استثناءات قليلة

سجل لإذاعة صنعاء توشيحاً دينياً رائعاً بعنوان(أتيت إليك) سنة 1986م يذاع باستمرار منذ ذلك الوقت و حتى اليوم

- في سنة 1997م

عين الشاعر الكبير سيد أحمد الحردلو سفيراً للسودان في اليمن فشكل وجوده سنداً لا بأس به للموسيقار العظيم السيء الحظ

-و في عام 1989م عاد إلى السودان برفقة الحردلو مع لحن جديد من كلمات الحردلو هدية لعرس الحردلو نفسه عنوانه (إنشاالله)

و قد قدمه بصوته في عرس الحردلو بنادي الضباط بالخرطوم

تلى ذلك مشروع تعاون مع الفنان الشاب عماد احمد الطيب يتكئ على قصائد للشاعر مولانا أزهري الذي تعرف عليه في تلك العودة القصيرة إلى السودان

و كانت الألحان هي (بيني بينك) و (خطوة خطوة) و هو مشروع لم يكتب له النجاح

عاد الموسيقار ناجي القدسي من عامه ذاك إلى صنعاء

ليشتبك في معركة فنية مع الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم حول مفهوم الموسيقى السمفونية

- و في عام 1990م شارك في الرحلة الشهيرة للسفينة ابن خلدون مع ناشطين و مبدعين من جميع أنحاء العالم إبان أزمة الخليج الأولى

و شهدت الأعوام بين 1990-1994 انتعاشاً مميزاً تعرفه حياة الموسيقار ناجي القُدْسِي الفنية للمرة الأولى في اليمن

-فرغم نكبته بوفاة والده الحاج محمد الهيثمي في فبراير 1992م- فقد أنجز خلالها مقطوعته الموسيقية الشهيرة (ليالي العدين) التي جابت بها فرقة وزارة الثقافة محافظات اليمن كلها حيث حظيت بشعبية كبيرة قبل أن تسجلها الفرقة للإذاعة لتكون على رأس المقطوعات اليمنية التي تتميز بها مكتبة إذاعة صنعاء

كما قدم لحناً رائعاً لقصيدة الشاعر الكبير محمد الشرفي (حبيبتي) الذي سجله لإذاعة صنعاء الفنان جميل صالحصحبة أروكسترا الوزارة

كما أنجز مجموعة أغانٍ و قطع موسيقى تصويرية لمسرحية (العسل المر) التي كانت من أنجح المسرحيات التي عرفتها مسارح اليمن

إلى جانب كل ذلك حول الموسيقار الباذخ عشرة نصوص للشاعر سيد أحمد الحردلو إلى ألحان مدهشة و سجلها له بصوته على أشرطة كاست ليحملها إلى الفنان الكبير محمد وردي

سنة 1995م فقد الموسيقار ناجي القدسي أخاه الكبير عبد الكريم الذي كان صديق عمره و الممول المادي له أيام البدايات

و كانت اليمن قد دخلت عقب حرب 1994م مرحلة صعبة

فقد تغير المناخ المنفتح الذي عاشته عقب قيام الوحدة سنة 1990م ذلك المناخ الذي أتاح لعبقرية ناجي أن تعلن عن نفسها

و من ثم ساد الكساد الحياة كلها و على رأسها الفنو شهدت اليمن ظاهرتين متعاكستين تشكلان مفارقة ثقافية و اجتماعية و سياسية قل نظيرها

فقد علت أصوات التيارات التكفيرية و قابلها اتساع توجه الناس خاصة أهل الإبداع إلى التصوف

و كان نصيب الموسيقار البارع ناجي القدسي الانضمام إلى المكاشفية على الطريقة الجيلانية حيث لبس ملابس أهل التصوف

و أطال شعره و أطلق لحيته لتعرفه شوارع صنعاء و مقايلها و أماكنها العامة بذلك الشكل المميز اللافت للأنظار

و قد انعكس انضمامه إلى الطريقة على مدائح الحضرات التي تقيمها، فخلال مدة قياسية

كان الموسيقار العظيم قد أحدث ثورة في طرق و أساليب المديح من خلال ألحانٍ حداثيةٍ خاصة صاغها للطريقة قارب عددها حوالي الأربعين لحناً بين فصيح و عامي سوداني

هذا التوجه الصوفي قاد الموسيقار ناجي القدسي سنة 1996م إلى إنجاز عمل خالد

يعد من أكثر العلامات المؤشرة على عبقريته و هو تلحين مسرحية (مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور كاملة

و قد أثرت تجربتها عليه إذ حفظ المسرحية كاملة و توله بأداء مقاطعها الشعرية و حواراتها بصوته الأجش الموحي و تعابير وجهه الشديدة التصوير في الأماكن العامة بصنعاء و تحولت تجمعات الناس حوله يسمعونه يلقي تلك المسرحية أينما ذهب إلى ظاهرة أثارت حفيظة بعض الجهات فتم تكفيره بشكل كيدي واضح

و تقاعست جميع الجهات المهتمة بالحقوق و الحريات و الثقافة و الأدب و الإبداع عن نصرته أو الصراخ من أجله و قد ألقي به في السجن قرابة شهرين تعرض خلالها للضرب و التهديد بالقتل و إهدار الدم

و قد انتهت تلك المأساة بمجرد أن شكلت لجنة من القضاة لمقابلته في السجن فتم الإفراج عنه بعد أن عجب القضاة من تهمة كهذه توجه إلى رجل لا يليق به إلا أن يوصف بـ (مؤمن من أهل الله)

بيد أن الموسيقار الذي كان قد عانى كثيراً من الظلم و الظلمات و من عنت الناس و عنت الحياة لم يبال بحادثة التكفير و لا بغيرها من المضايقات التي كانت تطاله بين حين و آخر اعتراضاً على تصوفه الذي منحه مظهراً خاصاً و منطقاً مميزاً في الحياة

خصوصاً و أنه كان قد دخل في حال جذب صغر في عينه الأشياء و الأحداث و سائر أفعال البشر

-سنة 1998م عاد إلى السودان بعد غياب دام تسع سنوات ليفاجأ بأن ألحانه لقصائد الحردلو التي أرسلت إلى الفنان محمد وردي قد فقدت

فكانت تلك إحدى النكبات الكبيرة التي أصابت حياته

و تواصل في ذلك الوقت مع الشاعر مولانا أزهري شرشاب

الذي أهداه ديوانه (إكسير الحياة) فبدأ معه تجربة تلحينية لأربع من قصائده هي (إكسير الحياة) و (وتر الأماني) و (بهواك أنا) و (إنت الوفا)

و في نفس السنة عاد إلى اليمن ليقضي أطول فترة انقطعها عن السودان مسقط رأسه

و ملهم روحه و حاضن نجاحاته القديمة و ذكرياته الأليمة

بين 1998- 2008م عاش الموسيقار ناجي القدسي في صنعاء عزلة تامة و حالة عدمية لا تطاق و طال الأسى جوانب حياته كلها

ناهيك عن الإهمال و الشعور بالظلم الذي لازمه

-سنة 2001م فقد اليد الرحيمة الآسية برحيل أمه الشريفة الحاجة فاطمة محمد سعيد ميرغني

و دشنت صنعاء عاصمة للثقافة العربية سنة 2004م و كرم كل المبدعين في مجالات الإبداع كافة و أنصفوا مادياً و معنوياً و قدمت لهم الدروع و الميداليات و الأوشحة و الأموال ببذخ غير عادي المستثنى الوحيد في ذلك كله كان الموسيقار العظيم ناجي القدسي

تلى ذلك عام 2006م تتويج الخرطوم عاصمة للثقافة العربية

و توقع الموسيقار ناجي القدسي أن تتذكره أمه الرؤوف و لكنه لقي منها نفس ما لقيه من صنعاء

بل لقد كان نسيانها أو تناسيها له أشد مرارةً و أكثر إيلاماً

في هذه العشر السنوات بين 1998-2008م كان العمر قد تقدم و تراجعت الأحلام كثيراً

و امتد ظلام اليأس إلى مناطق كثيرة في الروح و القلب و العقل

و كثرت التساؤلات عن الجدوى

و كانت الإبداعات قليلة لأول مرة في حياة هذا الموسيقار العجيب

بحيث يمكن إجمالها في تعامل لحني مع قصيدة (الوردة تفتح سرتها) للشاعر علوان الجيلاني 1998م، و تعامل آخر مع (يوميات حاج) لمحمد الفيتوري 2002م

و تعامل لحني ثالث مع قصيدة الشيخ عبد الرحيم البرعي (بمحمد شرف المحامد يعظم) عام 2005م، إضافة إلى تشذيبات لملحمته (مأساة الحلاج)، كان يقوم بها بين حين و آخر

سنة 2008م عاد إلى مرابع الصبا و الشباب في الخرطوم و احتفي به في لقاء تلفزيوني على قناة النيل الأزرق بمشاركة أصدقائه القدامى شركاء الإبداع و النجاح الفنان الكبير حمد الريح و الشاعران الكبيران محمد أحمد سوركتي و عبد الرحمن مكاوي

و قد أثبت ذلك اللقاء أن حنيناً جارفاً لناجي القدسي و إبداعه تمتلئ به نفوس و قلوب السودانيين

و أنهم لم ينسوه و لم ينسوا إبداعاته و مساهماته الباذخة في إثراء الموسيقى السودانية

و قد جر ذلك الظهور له

بعد عقود من البعد و الاختفاء إلى سيل من الكتابات حفلت بها الصحف و مواقع الانترنت و منتدياته في السودان

في نفس العام عاد إلى اليمن لبضعة أشهر ليعود إلى السودان مرة أخرى و يقيم فيها عاماً كاملاً

-بين نهاية 2009م و مطلع 2010م تعرض لأزمتين قلبيتين

خلال ثلاثة أشهر

ألجأته كل أزمة منهما إلى النوم في العناية المركزة بالمستشفى الجمهوري بصنعاء لأكثر من عشرة أيام

-قبل نهاية عام 2010م عاد إلى السودان

و بقي هناك حتى أغسطس 2011م

قبل نهاية عام 2011م تعرض لأزمة قلبية ثالثة نام على إثرها عدة أيام في العناية المركزة بمستشفى الثورة بصنعاء أجريت له خلالها قسطرة علاجية

في هذه الأيام (ديسمبر 2012م) يقف الموسيقار ناجي القدسي على قمة ثمان و ستين سنة من أيام هذه الحياة و يتربع على هرم من الإبداع الموسيقي الباذخ يتجاوز المائة و عشرين لحناً

و يسكن غرفة جوار برج الاتصالات بميدان التحرير في صنعاء وحيداً

محروماً من أي تكريم أو تقدير تقدمه الجهات المختصة له في أي من بلديه (السودان-و اليمن)سعادته الوحيدة تقدير محبيه و عشاق موسيقاه الذي تعبر عنه كتابات و أسئلة المحبين من السودانيين المقيمين في السودان أو الموزعين في جهات العالم الأربع